كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 20)

متّصلاً بقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] وأن عديّ بن حاتم - رضي اللَّه عنه - حمل الخيط على حقيقته، وفهم من قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} من أجل الفجر، ففعل ما فعل بالعقال الأبيض والأسود، وهذا بخلاف حديث سهل بن سعد - رضي اللَّه عنه -، فإن فيه أن اللَّه تعالى لم يُنزل {مِنَ الْفَجْرِ} إلا منفصلاً عن قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولما وقع لهم الإشكال حينئذ أنزل اللَّه تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} رافعًا لذلك الإشكال، وقد قيل: إنه كان بين نزولهما عام كامل.
وكأن الحديثين واقعتان في وقتين، ويصحّ الجمع بأن يكون حديث عديّ متأخرًا عن حديث سهل، وأنّ عديا لم يسمع ما جرى في حديث سهل، وإنما سمع الآية مجرّدة، ففهمها على ما قرّرناه، فبيّن له النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -أن الخيط الأبيض كنايةٌ عن بياض الفجر، والخيط الأسود كناية عن سواد الليل، وأن معنى ذلك أن ينفصل أحدهما عن الآخر، وعلى هذا يكون: {مِنَ الْفَجْرِ} متعلّقًا بقوله: {يَتَبَيَّنَ}، وعلى مقتضى حديث سهل يكون في موضع الحال، متعلّقًا بمحذوف، وهكذا هو معنى جوابه في حديث سهل.
ويحتمل أن يكون الحديثان قضية واحدة، وذكر بعض الرواة -يعني في قصّة عديّ- متصلاً بما قبله كما ثبت في القرآن، وإن كان قد نزل مفرّقاً كما بيّنه حديث سهل واللَّه تعالى أعلم انتهى كلام القرطبيّ بتصرّف (¬1).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني ضعيف؛ -كما قال الحافظ- لأن قصّة عديّ متأخرة لتأخر إسلامه، كما تقدّم.
وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي أسامة، عن مجالد في حديث عديّ: أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - قال -لما أخبره بما صنع-: يا ابن حاتم ألم أقل لك: {مِنَ الْفَجْرِ}، وللطبراني من وجه آخر عن مجالد وغيره: فقال عديّ: يا رسول اللَّه كل شيء أوصيتني قد حفظته غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إني بتّ البارحة معي خيطان أنظر إلى هذا، وإلى هذا، قال. "إنما هو الذي في السماء".
فتبيّن بهذا كله أن قصّة عديّ مغايرة لقصة سهل، فأما من ذُكِرَ في حديث سهل، فحملوا الخيط على ظاهره، فلما نزل {مِنَ الْفَجْرِ} علموا المراد، فلذلك قال سهل في حديثه: "فعلموا أنما يَعني الليل والنهار"، وأما عديّ فكأنه لم يكن في لغة قومه استعارة
¬__________
(¬1) -"المفهم" ج 3 ص 147 - 150.

الصفحة 387