كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 20)

الخيط للصبح، وحمل قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} على السببيّة، فظنّ أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر تمييز أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر، أو نسي قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} حتى ذكّره بها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، وهذه الاستعارة معروفة عند بعض العرب، قال الشاعر [من المتقارب]:
وَلَمَّا تَبَدَّتْ (¬1) لَنَا سُدْفَةٌ ... وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال في "الفتح": ما حاصله: معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}: حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، وهذا البيان يحصل بطلوع الفجر الصادق، ففيه دلالة على أن ما بعد الفجر من النهار. وقال أبو عبيد: المراد بالخيط الأسود الليل، وبالخيط الأبيض الفجر الصادق، والخيط اللون. وقيل: المراد بالأبيض أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، كالخيط الممدود، وبالأسود ما يمتدّ معه من غبش الليل شبيهًا بالخيط. قاله الزمخشريّ، قال: وقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر، قال: ويجوز أن تكون "من" للتبعيض لأنه بعض الفجر، وقد أخرجه قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} من الاستعارة إلى التشبيه، كما أن قولهم: رأيت أسدًا مجاز، فإذا زدت فيه "من فلان" رجع تشبيهًا. ثم قال: كيف جاز تأخير البيان، وهو يُشبه العبث (¬2) لأنه قبل نزول {مِنَ الْفَجْرِ} لا يفهم منه إلا الحقيقة، وهي غير مرادة، ثم أجاب بأنّ مَنْ لا يجوّزه -وهم أكثر الفقهاء والمتكلّمين- لم يصح عندهم حديث سهل، وأما من يجوّزه فيقول: ليس بعبث، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به انتهى.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: ونقله نفي التجويز عن الأكثر فيه نظر، كما سيأتي، وجوابه عنهم بعدم صحة الحديث مردود، ولم يقل به أحد من الفريقين، لأنه مما اتفق الشيخان على صحّته، وتلقّته الأمة بالقبول.
ومسالة تأخير البيان مشهورة في كتب الأصول، وفيها خلاف بين العلماء من المتكلّمين وغيرهم، وقد حكى ابن السمعانيّ في أصل المسألة عن الشافعيّة أربعة أوجه: الجواز مطلقًا، عن ابن سُريج، والإصطخريّ، وابن أبي هريرة، وابن خيران.
¬__________
(¬1) - وفي "اللسان": "فلما أضاءت" بدل "تبدّت".
(¬2) - هذه العبارة فيها سوء أدب، فالأولى حذفها، وإنما أبقيتها أداء للأمانة العلميّة. فليتنبّه.

الصفحة 388