كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 23)

ما سيأتي بعد قليل، حيث قال: "باب ميقات أهل المدينة، ولا يهُلّون قبل ذي الحليفة". وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الجواز. وفيه نظر، فقد نُقل عن إسحاق، وداود، وغيرهما عدم الجواز، وهو ظاهر جواب ابن عمر، ويؤيّده القياس على الميقات الزماني، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدّم عليه انتهى المقصود من كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-.
وقد اعترض العينيّ على كلام الحافظ هذا كعادته بما لا يُلفت إليه؛ حيث إنه مجرّد تحامل، وتعصّب، فالحقّ هو الذي قرّره الحافظ بان مذهب الإمام البخاريّ أنه لا يجوز أن يحرم قبل الميقات، فقوله: "ولا يهلّون قبل ذي الحليفة" صريح في كونه لا يرى جواز الإحرام قبل الميقات، وهو الظاهر، وأما دعوى الإجماع فقد عرفت أنه باطل، فقد خالف فيه جماعة من أهل العلم.
قال الصنعانيّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره؟ قيل: نعم؛ لأن قول الصحابة: وقّت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، يقضي بالإهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص، والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرّمة، فلا أقلّ من أن يكون تركها أفضل، ولولا ما قيل من الإجماع بجواز ذلك لقلنا بتحريمه؛ لأدلّة التوقيت.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد عرفت فيما سبق أن دعوى الإجماع غير صحيحة، فوجب القول بتحريمه، فتنبّه.
قال: ولأن الزيادة على المقدّرات، من المشروعات، كأعداد الصلاة، ورمي الجمار، لا تُشرع، كالنقص منها، وإنما لم نجزم بتحريم ذلك؛ لما ذكرنا من الإجماع؛ ولأنه روي عن عدّة من الصحابة تقديم الإحرام على الميقات، فأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وأحرم أنس من العقيق، وأحرم ابن عبّاس من الشام، وأهلّ عمران بن حصين من البصرة، وأهلّ ابن مسعود من القادسيّة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الاستدلال من الصنعاني عجيب، كيف يحتجّ هنا بما نُقل عن ابن عباس، وغيره في معارضة الأحاديث المرفوعة، ويرد قوله: من أراد من أهل مكة أن يعتمر خرج إلى التنعيم، ويجاوز الحرم. بأنه أثر موقوف، لا يقاوم المرفوع. مع أنه يوافق المرفوع في كونه - صلى اللَّه عليه وسلم - أعمر عائشة من التنعيم؟. وكذا ردّه قول المحبّ الطبريّ: إنه لا يعلم أحدا جعل مكة ميقاتًا للعمرة. فقال: جوابه أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - جعلها ميقاتًا لها بهذا الحديث؟. فهلا قال هنا إن هذه الآثار عن الصحابة لا تقام المرفوع. إن هذا تناقض عجيب.

الصفحة 374