كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 24)

بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحيّ من قُريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون ... "، فذكر نحوه، قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: فعرف بهذا تعيين القائلين انتهى (أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجَّ، مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ) أي من أفحش الفواحش. والفجور الانبعاث في المعاصي، يقال: فجر فجورًا، من باب نصر (¬1). وهذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة عن غير أصل (وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرَ) هكذا في نسخ "المجتبى" "صفر" من غير ألف، ووقع في "الكبرى" "صفرًا" بألف، وهو الأكثر. والذي في "المجتبى"، وهو الذي وقع في جميع الأصول من "الصحيحين". قال النوويّ: كان ينبغي أن يكتب بالألف، ولكن على تقدير حذفها لا بدّ من قراءته منصوبًا؛ لأنه مصروف بلا خلاف. يعني والمشهور عن اللغة الربيعية كتابة المنصوب بغير ألف، فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يُصرف، فيقرأ بالألف، وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه، لكن في "المحكم" كان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: إنه لا يمتنع الصرف حتى يجتمع علتان، فما هما؟، قال: المعرفة والساعة. وفسّره المطرّزيّ بأن مراده بالساعة أن الأزمنة ساعات، والساعة مؤنثة انتهى.
قال في "الفتح": وحديث ابن عباس هذا حجة لأبي عبيدة. ونقل بعضهم أن في "صحيح مسلم" "صفرًا" بالألف.
وأما جعلهم ذلك، فقال النوويّ: قال العلماء: المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكانوا يسمون المحرّم صفرًا، ويُحلّونه، ويؤخّرون تحريم المحرّم إلى نفس صفر؛ لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرّمة، فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة، والغارة بعضهم على بعض، فضلّلهم اللَّه في ذلك، فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [التوبة: 37].
وقال القرطبيّ: قوله: "ويجعلون المحرم صفَر" أي يسمونه به، وينسبون تحريمه إليه؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهُر حُرُم، فتضيق عليهم بذلك أحوالهم.
وحاصله أنهم كانوا يُحلّون من الأشهر الحرم ما احتاجوا إليه، ويُحرّمون مكان ذلك غيره، وكان الذين يفعلون ذلك يُسمَّون النَّسَأَة، وكانوا أشرافَهُم، وفي ذلك يقول شاعرهم [من الوافر]:
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدَّ ... شُهُورَ الحِلَّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا
فردّ اللَّه كلّ ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية [التوبة: 37] (¬2).
¬__________
(¬1) - "عمدة القاري" 8/ 35.
(¬2) - "المفهم" 3/ 363.

الصفحة 344