كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 26)

في الحديث المتفق عليه: "فمنّا من مات، ولم يأكل من أجره شيئًا ... " الحديث.
واستشكل بعضهم نقص ثواب المجاهد بأخذه الغنيمة، وهو مخالف لما يدلّ عليه أكثر الأحاديث، وقد اشتهر تمدّح النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - بحلّ الغنيمة، وجعلها من فضائل أمته، فلو كانت تنقص الأجر ما وقع التمدّح بها. وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن يكون أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلاً، مع أن أهل بدر أففل بالاتفاق. وسبق إلى هذا الإستشكال ابن عبد البرّ، وحكاه عياضٌ، وذكر أن بعضهم أجاب عنه بأنه ضعّف حديث عبد اللَّه بن عمرو؛ لأنه من رواية حميد بن هانىء، وليس بمشهور. وهذا مردود؛ لأنه ثقة يحتجّ به عند مسلم، وقد وثّقه النسائيّ، وابن يونس، وغيرهما، ولا يُعرف فيه تجريح لأحد.
ومنهم: من حمل نقص الأجر على غنيمة أُخذت على غير وجهها، وظهورُ فساد هذا الوجه يغني عن الإطناب في ردّه؛ إذ لو كان الأمر كذلك لم يبق لهم ثلث الأجر، ولا أقلّ منه.
ومنهم: من حمل نقص الأجر على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده، وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضًا. وفيه نظرٌ؛ لأن صدر الحديث مصرّحٌ بأن المقسّم راجع إلى من أخلص؛ لقوله في أوله: "لا يُخرجه إلا إيمانٌ بي، وتصديقٌ برسلي".
وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما، واستعمالهما على وجههما. ولم يُجب عن الإشكال المتعلّق بأهل بدر.
وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين، بل الحكم فيهما جارٍ على القياس؛ لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقّة فيما كان أجره بحسب مشقّته؛ إذ للمشقّة دخولٌ في الأجر، وإنما المشكل العمل المتّصل بأخذ الغنائم، يعني فلو كانت تنقص الأجر لما كان السلف الصالح يثابون عليها.
فيمكن أن يُجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئيّة على بعض؛ لأن أخذ الغنائم أول ما شُرع كان عونًا على الدين، وقوّةً لضعفاء المسلمين، وهي مصلحة عظمى، يغتفر لها بعض النقص في الأجر من حيث هو.
وأما الجواب عمن استشكل ذلك بحال أهل بدرٍ، فالذي ينبغي أن يكون التقابل بين كمال الأجر ونقصانه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم، أو يغزو فيغنم، فغايته أن حال أهل بدر مثلاً عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها، ولا ينفي ذلك أن يكون حالهم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نصّ أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونه مغفورًا لهم، وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون

الصفحة 162