كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 26)

وراءهم مرتبة أخرى.
وأما الاعتراض بحِلّ الغنائم فغير وارد، إذ لا يلزم من الحلّ ثبوت وفاء الأجر لكلّ غاز، والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه، لكن ثبت أن أخذ الغنيمة، واستلاءها (¬1) من الكفّار يُحَصِّل الثواب، ومع ذلك فمع صحّة ثبوت الفضل في أخذ الغنيمة، وصحّة القدح بأخذها لا يلزم من ذلك أن كلّ غاز يحصل له من أجر غَزَاته نظير من لم يغنم شيئًا البتّة.
قال الحافظ: والذي مثّل بأهل البدر أراد التهويل، وإلا فالأمر على ما تقرّر أخيرًا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا مما لو لم يحصل لهم أجر الغنيمة أن يكونوا في حال أخذهم الغنيمة مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم، كمن شهد أُحدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا، بل أجر البدريّ في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك أن يكون لو فُرض أن أجر البدريّ بغير غنيمة ستمائة، وأجر الأُحُديّ مثلاً بغير غنيمة مائة، فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث عبد اللَّه بن عمرو، كان للبدريّ لكونه أخذ الغنيمة مائتان، وهي ثلث الستمائة، فيكون أكثر أجرًا من الأُحُديّ.
وإنما امتاز أهل بدر بذلك لكونها أول غزوة شهدها النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في قتال الكفّار، وكان مبدأ اشتهار الإسلام، وقوّة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا، فصارت لا يوازيها شيء في الفضل. واللَّه أعلم.
واختار ابن عبد البرّ أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على مافاته من الغنيمة، كما يؤجر من أُصيب بماله، فكان الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عند ذلك كالنقص من أصل الأجر، ولا يخفى مباينة هذا التأويل لسياق حديث عبد اللَّه بن عمرو الذي تقدّم ذكره.
وذَكَرَ بعض المتأخّرين للتعبير بثلثي الأجر في حديث عبد اللَّه بن عمرو حكمة لطيفة بالغةً، وذلك أن اللَّه أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات: دنيويتان، وأخرويّة، فالدنيويتان السلامة، والغنيمة، والأخرويّة دخول الجنّة، فإذا رجع سالمًا غانمًا، فقد حصل له ثلثا ما أُعدّ اللَّه له، وبقي له عند اللَّه الثلث، وإن رجع بغير غنيمة عوّضه اللَّه عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته، وكأن معنى الحديث أنه يقال للمجاهد: إذا فات عليك شيء من أمر الدنيا عوّضتك عنه ثوابًا، وأما الثواب المختصّ بالجهاد فهو حاصل للفريقين معًا، قال: وغاية ما فيه عدّ ما يتعلّق بالنعمتين الدنيويتين أجرًا بطريق المجاز. واللَّه أعلم. ذكر هذا
¬__________
(¬1) - هكذا نسخة "الفتح"، ولعل الأولى: "واستلابها". واللَّه تعالى أعلم.

الصفحة 163