كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 26)

تأمّل، وحاصر - صلى اللَّه عليه وسلم - الطائف لعشر بقين من ذي الحجة إلى آخر المحرّم، أو إلى شهر. وقد استدلّ على نسخ الحرمة في الأشهر الحرم بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية [التوبة: 5]، وهو بناء على التجوّز بلفظ: "حيث" في الزمان، ولا شكّ أنه كثير في الاستعمال. ذكره القاري (¬1) (بِأمْوَالِكُمْ) أي بتجهيز الغزاة (وَأَيْدِيكُمْ) أي بمباشرة القتل (وَأَلْسِنَتِكُم) أي بالدفاع عن الإسلام بذكر الحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، ودحض حجج الكفار، وبالدعوة إليه بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالمجادلة بالحسنى، وحضّ الناس على الجهاد، وترغيبهم فيه، وبيان فضائله لهم.
وقال المنذريّ (¬2): يحتمل أن يريد بقوله: "وألسنتكم" الهجاء، ويؤيّده قوله - صلى اللَّه عليه وسلم - لعمر ابن الخطّاب - رضي اللَّه عنه -، لما أنكر على عبد اللَّه بن رواحة إنشاده بين يدي رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - في عمرة القضاء شعره في قريش، فقال - صلى اللَّه عليه وسلم -: "خَلِّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نّضحِ النَّبْل" (¬3).
وقال المظهر: معنى قوله: "بألسنتكم"، أي جاهدوهم بها، بأن تذمّوهم، وتعيبوهم، وتسبّوا أصنامهم، ودينهم الباطل، وبأن تخوفوهم بالقتل، والأخذ، وما أشبه ذلك.
[فإن قلت]: هذا يخالف قول تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية [الأنعام:108].
[قلت]: كان المسلمون يسبّون آلهتهم، فنهوا؛ لئلا يكون سبّهم سببًا لسبّ اللَّه تعالى، والنهي منصبّ على الفعل المعلّل، فإذا لم يؤدّ السب إلى سبّ اللَّه تعالى جاز انتهى.
وتعقّبه القاري، فقال: إنه سبب غالبيّ، وعدم كونه تسبّبًا أمر موهوم، فيتعيّن النهي، لا سيّما ومبنى الأحكام الشرعية على الأمور الأغلبية، مع أن حالة الاستواء، بل وقت الاحتمال يرجّح النهي.
نعم يمكن أن يكون النهي واردًا على أن يكون الابتداء من المؤمنين؛ لأنه ربما يكون سبّبًا لسبّهم، أما إذا كان الابتداء منهم فليس كذلك؛ لأن هذا الخوف في الذين غلب الجهل والسفه عليهم من الكفّار، أما أكثرهم، فيعظّمون اللَّه تعالى، ويقولون: {هَؤُلاَءِ
¬__________
(¬1) - "المرقاة" 7/ 385.
(¬2) - راجع "مختصر أبي داود" 3/ 366 - 367.
(¬3) - حديث صحيح، تقدم للمصنف برقم 161/ 2893.

الصفحة 99