كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

الحامل على ذلك ما طُبع عليه النساء من الغيرة، ومحبّة الاستبداد، دون ضرائرها لم يُسعِفها بما طلبت من ذلك. (ومنها): أن فيه منقبةً ظاهرةً لعائشة، ثم لسائر أمهات المؤمنين - رضي اللَّه تعالى عنهنّ - حيث اخترن اللَّهَ، ورسوله، والدارَ الآخرةَ، وبادرن إلى ذلك. (ومنها): أن فيه المبادرة إلى الخير، وإيثار أمور الآخرة على الدنيا؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى رتّب على ذلك ثوابًا عظيمًا، كما بينته الآية المذكورة، وكما في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. (ومنها): أنه ذكر بعض العلماء أن من خصائصه - صلى اللَّه عليه وسلم - تخيير أزواجه، واستند إلى هذه القصّة، ولا دلالة فيها على الاختصاص. نعم ادّعى بعض من قال: إن التخيير طلاق أنه في حقّ الأُمّة، واختصّ هو - صلى اللَّه عليه وسلم - بأن ذلك في حقّه ليس بطلاق. لكن الصحيح أن التخيير ليس طلاقًا في حقّ أحد، كما سيأتي تحقيقه في بابه -27/ 3441 - من "كتاب الطلاق"، إن شاء اللَّه تعالى. (ومنها): أن بعضهم استدلّ به على ضعف ما جاء أن من الأزواج حينئذ من اختارت الدنيا، فتزوّجها (¬1)، وهي فاطمة بنت الضحّاك، لعموم قول عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "ثم فعل أزواج النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - مثل ما فعلت" (¬2). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة):
قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: سبب نزول آية التخيير فيما روى أبو بكر بن مردويه في "تفسيره" من حديث الحسن مرسلاً في عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، طلبت إلى رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - ثوبًا، فأمر اللَّه تعالى نبيّه - صلى اللَّه عليه وسلم - أن يُخيّر نساءه، أما عند اللَّه يُردن، أم الدنيا؟. وهذا مرسل (¬3). لكن يشهد له حديث جابر عند مسلم، وفيه: أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: "وهنّ حولي كما ترى، يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يَجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يَجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - ما ليس عنده؟، قلن: واللَّه ما نسأل رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - شيئًا أبدًا، ليس عنده، ثم اعتزلهنّ شهرًا، أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ}، فذكر الحديث انتهى (¬4).
وقال في "الفتح": ورد في سبب هذا التخيير ما أخرجه مسلم من حديث جابر
¬__________
(¬1) - هكذا نسخة "الفتح" ولعل الصواب: "ففارقها". واللَّه تعالى أعلم.
(¬2) - "فتح" 9/ 477.
(¬3) - أي فهو حديث ضعيف، كما تقدم نقلاً عن "الفتح".
(¬4) - "طرح التثريب" 7/ 102 - 103.

الصفحة 10