كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

مسلم الحديث من رواية معمر، عن الزهريّ، ففصّله تفصيلاً حسنًا، وذلك أنه أخرجه بطوله إلى آخر قصّة عمر في المتظاهرتين إلى قوله: "حتى عاتبه اللَّه"، ثم عقّبه بقوله: "قال الزهريّ: فأخبرني عروة، عن عائشة، قالت: لما مضى تسع وعشرون"، فذكر مراجعتها في ذلك، ثم عقّبه بقوله: "قال: يا عائشة إني ذاكرٌ لك أمرًا، فلا عليك أن لا تعجلي، حتى تستأمري أبويك ... " الحديث.
فعُرف من هذا أن قوله: "فلما مضت تسع وعشرون الخ" في رواية عُقيل هو من رواية الزهريّ، عن عائشة بحذف الواسطة، ولعلّ ذلك وقع عن عمد من أجل الاختلاف على الزهريّ في الواسطة بينه وبين عائشة في هذه القصّة بعينها، كما بينه البخاريّ هنا (¬1) وكأن من أدرجه في رواية ابن عباس مشى على ظاهر السياق، ولم يفطن للتفصيل الذي وقع في رواية معمر. وقد أخرج مسلم أيضًا من طريق سماك بن الوليد، عن ابن عباس "حدّثني عمر بن الخطاب، قال: لما اعتزل النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - نساءه دخلت المسجد ... " الحديث بطوله، وفي آخره: "قال: وأنزل اللَّه آية التخيير"، فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهنّ فيه، ووقع ذلك صريحًا في رواية عمرة، عن عائشة، قالت: "لما نزل النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - إلى نسائه أمر أن يُخيرهنّ ... " الحديث. أخرجه الطبريّ، والطحاويّ.
واختلف الحديثان في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن يكون القضيّتان جميعًا سبب الاعتزال، فإن قصّة المتظاهرتين خاصّة بهما، وقصّة سؤال النفقة عامّة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير بقصّة سؤال النفقة أليق منها بقصّة المتظاهرتين (¬2).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن الأولى كون القضيّتين سببًا لنزول الآية المذكوره، قضيّة المتظاهرتين، وقضيّة سؤال النفقة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال الحافظ وليّ الدين -رحمه اللَّه تعالى-: اختَلَف الصحابة - رضي اللَّه عنهم - في أن التخيير في الآية، هل كان بين إقامتهنّ في عصمته، وفراقهنّ، أو بين أن يبسط لهنّ في الدنيا، أو لا يبسط لهنّ فيها، فذهب إلى الأول عائشة، وجابر - رضي اللَّه عنه -. وذهب إلى الثاني علي بن أبي طالب، وابن عباس - رضي اللَّه عنهما -. حكى ذلك والدي -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى في "شرح الترمذيّ"، وقال: الأول أصحّ، وعائشة صاحبة القصّة، وهي أعرف بذلك، مع موافقة ظاهر القرآن؛ لقوله: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}
¬__________
(¬1) - يعني في "كتاب التفسير" في تفسير سورة الأحزاب برقم 4786.
(¬2) - راجع "الفتح" 9/ 475 - 476. "كتاب التفسير" - "تفسير سورة الأحزاب".

الصفحة 12