كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

يطلّق واحدةً منهنّ بعد ذلك؟، فقيل: لا يحلّ له ذلك جزاء لهنّ على اختيارهنّ. وقيل: كان يحلّ له ذلك كغيره من الناس، ولكن لا يتزوّج بدلها. ثم نُسخ هذا التحريم، فأباح له أن يتزوّج بمن شاء عليهنّ من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}، والإحلال يقتضي تقدّم حظر، وزوجاته اللاتي في حياته لم يكنّ محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات، فانصرف الإحلال إليهنّ؛ ولأنه في سياق الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} الآية، ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه، ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحلّ له التزويج بهذا ابتداء، وهذه الآية، وإن كانت مقدّمةً في التلاوة، فهي متأخّرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في "البقرة". انتهى (¬1).
وقال ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: ذكر غير واحد من العلماء، كابن عباس، ومجاهد، والضحّاك، وقتادة، وابن زيد، وابن جرير، وغيرهم أن قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} نزل مجازاة لأزواج النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، ورضًا عنهنّ على حسن صنيعهنّ في اختيارهنّ اللَّه ورسوله، والدار الآخرة لما خيّرهنّ رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فلما اخترنه كان جزاؤهنّ أن اللَّه قصره عليهنّ، وحرّم عليه سواهنّ، أو يستبدل بهنّ غيرهنّ، ولو أعجبه حسنهنّ، إلا الإماء، والسراري، فلا حرج عليه فيهنّ، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك نزوّج؛ لتكون المنّة لرسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - عليهنّ، ثم أورد حديث عائشة المذكور في الباب: "ما مات رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - حتى أحلّ اللَّه له النساء". ثم أورد عن ابن أبي حاتم بسنده عن أم سلمة - رضي اللَّه تعالى عنها -، أنها قالت: "لم يمت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - حتى أحلّ اللَّه له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم، وذلك قول اللَّه تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} الآية". فجعلت هذه الآية ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي الوفاة في "البقرة"، الأولى ناسخة للتي بعدها. واللَّه أعلم. انتهى (¬2).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما ذكر أن الأرجح أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أباح اللَّه تعالى له النساء بعد ما حرم عليه غير نسائه اللاتي خيّرهنّ، فاخترنه، مجازاة لهنّ على حسن صنيعهنّ، ثم لرفعة مكانته - صلى اللَّه عليه وسلم - عند ربّه وَسَّعَ عليه، فَنَسَخَ ذلك التحريم، ثم من كريم شمائله، وحسن أدبه مع ربه، ومع نسائه لم يتزوّج بعد ذلك حتى مات - صلى اللَّه عليه وسلم -. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
¬__________
(¬1) - راجع "تفسير القرطبيّ" 14/ 206 - 107.
(¬2) - راجع "تفسير ابن كثير" 3/ 509 "تفسير سورة الأحزاب".

الصفحة 15