كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

حظوظ النفس والشهوات لا تتقدّم على أحكام الشرع، بل هي دائرة معها. (ومنها): أن الخطّابي استدلّ به على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغويّ في "شرح السنّة"، وينبغي أن يُحمل على دواء يسكّن الشهوة، دون ما يقطعها أصالةً؛ لأنه قد يقدر بعدُ، فيندم لفوات ذلك في حقّه، وقد صرّح الشافعيّة بأنه لا يُكسرها بالكافور ونحوه، والحجّة فيه أنهم اتفقوا على منع الجبّ والخصاء، فيُلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلاً. (ومنها): أن الخطّابيّ استدلّ به أيضًا على أن المقصود من النكاح الوطء، ولهذا شُرع الخيار في الْعُنَّة. (ومنها): أن القرافيّ استنبط من قوله: "فإنه له وجاء" أن التشريك في العبادة لا يَقدَح فيها بخلاف الرياء؛ لأنه أمر بالصوم الذي هو قربة، وهو بهذا القصد صحيح، مثاب عليه، ومع ذلك فأرشد إليه؛ لتحصيل غضّ البصر، وكفّ الفرج عن الوقوع في المحرّم انتهى.
قال الحافظ: فإن أراد تشريك عبادة بعبادة أخرى، فهو كذلك، وليس محلّ التراع، وإن أراد تشريك العبادة بأمر مباح، فليس في الحديث ما يُساعده انتهى.
(ومنها): أن بعض المالكيّة استدلّ به على تحريم الاستمناء؛ لأنه أرشد عند العجز عن التزويج إلى الصوم الذي يقطع الشهوة، فلو كان الاستمناء مباحًا لكان الإرشاد إليه أسهل.
وتُعُقّب دعوى كونه أسهل؛ لأن الترك أسهل من الفعل. وقد أباح الاستمناء طائفة من العلماء، وهو عند الحنابلة، وبعض الحنفيّه لأجل تسكين الشهوة. قاله في "الفتح" (¬1). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم النكاح:
ذهب الجمهور إلى استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه، واستطاعه بقدرته على مؤنه، دون الإيجاب عليه، فلا يلزمه عندهم التزوّج، ولا التسرّي، سواء خاف العَنَتَ، أم لا. كذا حكاه النوويّ عن العلماء كافّة، ثم قال: ولا نعلم أحدًا أوجبه إلا داود، ومن وافقه من أهل الظاهر، وروية عن أحمد، فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوّج، أو يتسرّى، قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرّةً واحدة. ولم يشترط بعضهم خوف العنت، قال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط، ولا يلزمه الوطء انتهى (¬2).
قال الحافظ وليّ الدين -بعد ذكر كلام النوويّ-: ما نصّه: وفيه نظر، فهذا الذي ذكر أنه رواية عن أحمد هو المشهور من مذهبه، وظاهر كلام أصحابه تعيّن النكاح. وعنه
¬__________
(¬1) - "فتح" 10/ 139 - 140 و"طرح التثريب" 7/ 3 - 9. "كتاب النكاح".
(¬2) - "شرح مسلم" 9/ 177.

الصفحة 24