كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

رواية أخرى بوجوبه مطلقًا، وإن لم يخف العنت، كما حكاه النوويّ عن بعضهم، وعبارة ابن تيميّة في "المحرّر": النكاح السابق سنة مقدّمة على نفل العبادة، إلا أن يخشى الزنا بتركه، فيجب، وعنه يجب عليه مطلقًا انتهى.
والوجوب عند خوف العنت وجه في مذهب الشافعيّ، حكاه الرافعيّ عن "شرح مختصر الجوينيّ". وقال النوويّ في "الروضة": هذا الوجه لا يحتم النكاح، بل يُخيّر بينه وبين التسرّي، ومعناه ظاهر انتهى.
وجزم به أبو العباس القرطبيّ، وهو من المالكيّه، بل زاد فحكى الاتفاق عليه، فإنه قال: إنا نقول بموجب هذا الحديث في حقّ الشابّ المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزبة، بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج، وهذا لا يختلف في وجوب التزويج عليه انتهى.
ونقله الاتفاق على ذلك مردود، لكن يُقلَّد في نقل مذهبه في ذلك، وبه يحصل الردّ على النوويّ في كلامه المتقدّم، ولم يقيّد ابن حزم ذلك بخوف الْعَنَتِ، وعبارته في "المحلّى": وفرضٌ على كلّ قادر على الوطء إن وجد أن يتزوّج، أو يتسرّى، أن يفعل أحدهما، فإن عجز عن ذلك، فليُكثر من الصوم، ثم قال: وهو قول جماعة من السلف.
وقال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": قسم الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، أعني الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحةَ، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقدر على النكاح، إلا أنه لا يتعيّن واجبًا، بل إما هو، وإما التسرّي، وإن تعذّر التسرّي، تعيّن النكاح حينئذ للوجوب، لا لأصل الشريعة انتهى. وكان هذا التقسيم لبعض المالكيّة، وقد حكاه أبو العبّاس القرطبيّ عن بعض علمائهم، وقال: إنه واضحٌ. وقال القاضي أبو سعد الهرويّ من الشافعيّة: ذهب بعض أصحابنا بالعراق إلى أن النكاح فرض كفاية حتى لو امتنع منه أهل قطر، أُجبروا عليه. انتهى (¬1).
وقال في "الفتح": وقد قسم العلماء الرجل في التزويج إلى أقسام:
[الأول]: التائق إليه القادر على مؤنه، الخائف على نفسه، فهذا يُندب له النكاح عند الجميع، وزاد الحنابلة في رواية أنه يجب، وبذلك قال أبو عوانة الإسفراينيّ من الشافعيّة، وصرّح به في "صحيحه"، ونقله المصيصيّ في "شرح مختصر الجوينيّ" وجهًا، وهو قول داود، وأتباعه. وردّ عليهم عياضٌ، ومن تبعه بوجهين: [أحدهما]: أن الآية التي احتجّوا بها خيرت بين النكاح والتسري -يعني قوله تعالى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، قالوا: والتسرّي ليس واجبًا اتفاقًا، فيكون التزويج غير
¬__________
(¬1) "طرح التثريب" 7/ 4 - 5.

الصفحة 25