كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

وقوله: "فعليه بالصوم". وفي رواية مغيرة، عن إبراهيم عند الطبرانيّ: "من لم يقدر على ذلك، فعليه بالصوم".
قال المازريّ: فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين أن لا يُغرَى الغائب، وقد جاء شاذًّا قول بعضهم: عليه رجلاً ليسني، على جهة الإغراء.
وتعقّبه عياضٌ بأن هذا الكلام موجود لابن قتيبة، والزجّاجيّ، ولكن فيه غلطٌ من أوجه:
أما أوّلاً: فمن التعبير بقوله: "لا إغراء بالغائب"، والصواب فيه إغراء الغائب، فأما الإغراء بالغائب فجائز، ونصّ سيبويه أنه لا يجوز "دونه زيدًا"، ولا يجوز "عليه زيدًا" عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب، فلا يجوز لعدم حضوره، ومعرفته بالحالة الدّالّة على المراد.
وأما ثانيًا: فإن المثال ما فيه حقيقة الإغراء، وإن كانت صورته، فلم يُرد القائل تبليغ الغائب، وإنما أراد الإخبار عن نفسه بأنه قليل المبالاة بالغائب، ومثله قولهم: إليك عني، أي اجعل شغلك بنفسك، ولم يُرد أن يغريه به، وإنما مراده دعني، وكن كمن شُغل عني.
وأما ثالثًا: فليس في الحديث إغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولاً بقوله: "من استطاع منكم"، فالهاء في قوله: "فعليه" ليست لغائب، وإنما هي للحاضر المبهم، إذ يصحّ خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} - إلى أن قال-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، ومثله لو قلت لاثنين: من قام منكما فله درهم، فالهاء للمبهم من المخاطبين، لا لغائب انتهى ملخّصًا.
وقد استحسنه القرطبيّ، وهو حسنٌ بالغ، وقد تفطّن له الطيبيّ، فقال: قال أبو عُبيدة قوله: "فعليه بالصوم" إغراء غائب، ولا تكاد العرب تُغري إلا الشاهد، تقول: عليك زيدًا، ولا تقول: عليه زيدًا، إلا في هذا الحديث. قال: وجوابه أنه لما كان ضمير الغائب راجعًا إلى لفظة "من" وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب"، وبيان لقوله: "منكم" جاز قوله: "عليه"؛ لأنه بمنزلة الخطاب.
وقد أجاب بعضهم (¬1) بأن إيراد هذا اللفظ في مثال إغراء الغائب هو باعتبار اللفظ، وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب اعتبار اللفظ. كذا قال، والحقّ مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجرّدًا هنا. قاله في "الفتح" (¬2).
¬__________
(¬1) - هذا الجواب لوليّ الدين العراقيّ ذكره في "طرح التثريب" 7/ 8.
(¬2) - "فتح" 10/ 137.

الصفحة 29