كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

وأخرج الدارقطنيّ، وغيره عن أبي ثعلبة الْخُشَنيّ - رضي اللَّه عنه -، مرفوعًا: "إن اللَّه تعالى فرض فرائض، فلا تضيّعوها، وحدّ حُدُودًا، فلا تعتدوها، وحرّم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" (¬1).
(ومنها): ما قاله الحافظ ابن عبد البّر: في هذا الحديث إثبات قِدَم العلم، وأن الخلق يُجزَون في علم قد سبق، وجفّ به القلم في كتاب مسطور. على هذا أهل السنَّة، وهم أهل الحديث، والفقه.
وجمدة القول في الْقَدَر أنه علم اللَّه، وسرّه، لا يُدرك بجدل، ولا تُشْفِي منه خُصُومةٌ، ولا احتجاج، وحسبُ المؤمن بالقدر أنه لا يقوم بشيء، دون إرادة اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-، وأن الخلق كلهم خلقُهُ، وملكه، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء، وما نشاء إلا أن يشاء اللَّه، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، وله الخلق، والأمرُ، له ما في السموات، وما في الأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى، ولا يكون في شيء من ذلك إلا ما يشاء، يغفر لمن يشاء، ويُعذّب من يشاء، ومن عذّبه فبذنبه، ويعفو عمن يشاء من عباده، ومن لم يوفّقه، فليس بظالم له، لا يظلم مثقال ذرّة، وإن تك حسنةً يُضاعفها، وما ربّك بظلاّم للعبيد انتهى (¬2). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم العزل:
اختلف السلف في حكم العزل، قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرّة إلا بإذنها؛ لأن الجماع من حقّها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه عزل. ووافقه في نقل الإجماع ابن هُبيرة.
قال في "الفتح": وتُعُقّب بأن المعروف عند الشافعيّة أن المرأة لا حقّ لها في الجماع أصلًا (¬3)، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعيّة خلافٌ مشهور في جواز العزل عن الحرّة بغير إذنها. قال الغزاليّ وغيره: يجوز، وهو المصحّح عند المتأخّرين.
واحتجّ الجمهور لذلك بحديث عن عمر، أخرجه أحمد، وابن ماجه بلفظ: "نُهي عن العزل عن الحرّة إلا لإذنها". وفي إسناده ابن لهيعة. والوجه الآخر للشافعيّة الجزم بالمنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان، أصحّهما الجواز. وهذا كلّه في الحرّة، وأما الأمة، فإن كانت زوجة، فهي مُرَتّبة على الحرّة، إن جاز فيها ففي الأمة أولى، وإن
¬__________
(¬1) حسّنه النوويّ في "الأربعين"، وأعلّه ابن رجب بالانقطاع بين مكحول، وأبي ثعلبة - رضي اللَّه عنه -.
(¬2) "الاستذكار" 18/ 209 - 210.
(¬3) قلت: قد تقدّم لنا البحث في هذا، وأن الحقّ وجوب الجماع للمرأة إذا احتاجت، فلا تغفل.

الصفحة 351