كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

امتنع فوجهان، أصحّهما الجواز؛ تحرّزًا من إرقاق الولد، وإن كانت سُرّيّةً جاز بلا خلاف عندهم إلا في وجه حكاه الرويانيّ في المنع مطلقًا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرّية مستولدةً، فالراجح الجواز فيه مطلقًا؛ لأنها راسخةٌ في الفراش. وقيل؛ حكمها حكم الأمة المزوّجة.
هذا: واتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرّة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وأن الأمة يعزل عنها بَغير إذنها، واختلفوا في المزوّجة، فعند المالكيّة يحتاج إلى إذن سيّدها، وهو قول أبي حنيفة، والراجح عن محمد، وقال أبو يوسف، وأحمد: الإذن لها، وهي رواية عن أحمد، وعنه بإذنها، وعنه يباح العزل مطلقًا، وعنه المنع مطلقًا.
والذي احتجّ به من جنح إلى التفصيل لا يصحّ إلا عند عبد الرزاق عنه بسند صحيح، عن ابن عبّاس، قال: "تُستأمر الحرّة في العزل، ولا تُستأمر الأمة السرّيّة، فإن كانت أمة تحت حرّ، فعليه أن يستأمرها". وهذا نصّ في المسألة، فلو كان مرفوعًا لم يجُز العدول عنه.
وقد استنكر ابن العربيّ القول بمنع العزل عمن يقول بأن المرأة لا حقّ لها في الوطء، ونقل عن مالك أن لها حقّ المطالبة به إذا قصد بتركه إضرارها (¬1). وعن الشافعيّ، وأبي حنيفة لا حقّ لها فيه إلا في وطأة واحدة يستقرّ بها المهر، قال: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون لها حقّ في العزل، فإن خصّوه بالوطئة الأولى، فيمكن، وإلا فلا يسوغ فيما بعد ذلك إلا على مذهب مالك بالشرط المذكور انتهى.
وما نقله عن الشافعيّ غريبٌ، والمعروف عند أصحابه أنه لا حقّ لها أصلًا. نعم جزم ابن حزم بوجوب الوطء، وبتحريم العزل، واستند إلى حديث جدامة بنت وهبٍ: "أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - سُئل عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفيّ". أخرجه مسلم.
وهذا معارض بحديثين: أحدهما أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، قال: "كانت لنا جواري، وكنّا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموءودة الصغرى، فسُئل رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: كذبت اليهود، لو أراد اللَّه خلقه لم تستطع ردّه".
¬__________
(¬1) هذا هو الصواب الذي تدلّ عليه النصوص، فقد أوجب اللَّه تعالى لهنّ مثل ما عليهنّ، في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، فكما أن عليها التمكين من جماعها، كذلك عليه أن يجامعها إذا طلبت منه، وليس هناك مانع، من مرض، أو نحوه، لظاهر الآية.
والحاصل أن مذهب مالك -رحمه اللَّه تعالى- هو الأرجح في المسألة. واللَّه تعالى أعلم.

الصفحة 352