كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

تعالى عنها - (قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنِ التَّبَتُلِ؟) أي الانقطاع عن النكاح، وملاذّ الدنيا إلى الاشتغال بالعبادة (فَمَا تَرَيْنَ فيهِ؟) أي أيَّ حكم تعتقدين، وتذهبين إليه في التبتّل؟، (قَالَتْ: فَلَا تَفْعَلْ) أي لا تتبتّل، بل انكِحْ، اقتداء بالمرسلين، الذين أُمر النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - أن يقتدي بهم.
وفي رواية أحمد من طريق المبارك بن فَضَالة، عن الحسن عن سعد بن هشام، قال: أتيت عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين، إني أريد أن أتبتل، فقالت: لا تفعل، ألم تقرأ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، قد تزوج رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وولد له". (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، بمنزلة "ألا" (سَمِعْتَ اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]) قال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه تعالى-: يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد رسولاً بشرًا كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجلعنا لهم أزواجا وذرية، وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم - صلى اللَّه عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، وفي "الصحيحين" أن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: "أما أنا فأصوم، وأفطر، وأقوم، وأنام، وآكل اللحم، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس منّي (¬1) " انتهى (¬2). وقولها (فَلَا تَتَبَتَّلْ) تأكيد لقولها: "فلا تفعل".
والمعنى: لا تتبتّل؛ لأنه مخالف لهدي رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - الذي أمره اللَّه تعالى بالاقتداء بالأنبياء والرسل الذين قبله، حيث قال له: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية [الأنعام: 90]، وكان من هديهم أن ينكحوا، ويولد لهم أولاد، كما بينته الآية المذكورة، فإذا تبتلت خالفت هذا الهدي.
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" مطوّلاً، فقال:
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، قال: حدثنا حصين بن نافع المازني -قال أبي (¬3): حصين هذا صالح الحديث- قال: حدثنا الحسن، عن سعد بن هشام، أنه دخل على أم المؤمنين عائشة، فسألها عن صلاة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، قالت: كان يصلي من الليل ثماني ركعات، وأوتر بالتاسعة، ويصلي ركعتين، وهو جالس، وذكرت الوضوء، أنه كان يقوم إلى صلاته، فيأمر بطَهُوره، وسواكه، فلما بَدَّن رسولُ اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، صلى ست ركعات، وأوتر بالسابعة، وصلى ركعتين، وهو جالس، قالت: فلم يزل على ذلك،
¬__________
(¬1) هو الحديث الآتي للمصنّف بعد هذا.
(¬2) - "تفسير ابن كثير" 2/ 537.
(¬3) - القائل هو عبد اللَّه بن الإمام أحمد راوي الحديث عنه.

الصفحة 42