كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 27)

عن سعد بن هشام، أنه قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره، فيجعله في سبيل اللَّه، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقي ناسًا بالمدينة، فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطًا ستةً أرادوا ذلك في حياة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، فنهاهم، فلما حدّثوه ذلك راجع امرأته، وكان قد طلّقها"، يعني بسبب ذلك.
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: لكن في عَدّ عبد اللَّه بن عمرو معهم نظرٌ؛ لأن عثمان ابن مظعون - رضي اللَّه عنه - مات قبل أن يهاجر عبد اللَّه فيما أحسب انتهى (¬1).
(قَالَ: بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أنامُ عَلَى فِرَاشٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصُومُ، فَلَا أُفْطِرُ) ولفظ البخاريّ: "قال أحدهم: أما أنا فأنا أصليّ الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوّج أبدًا ... " الحديث.
قال أبو العباس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: فهؤلاء القوم حصل عندهم أن الانقطاع عن ملاذّ الدنيا، من النساء، والطيّب من الطعام، والنوم، والتفرّغ لاستغراق الأزمان بالعبادات أولى، فلما سألوا عن عمل رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وعبادته لم يُدركوا من عبادته ما وقع لهم أَبْدَوْا فارقًا بينهم وبين النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - بأنه مغفورٌ له، ثم أخبَرَ كلُّ واحد منهم بما عزم على فعله، فلما بلغ ذلك النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - أجابهم بأن ألغى الفارق بقوله: "إني أخشاكم للَّه". وتقرير ذلك: إني وإن كنت مغفورًا لي، فخشية اللَّه، وخوفه يَحملني على الاجتهاد، وملازمة العبادة، لكنّ طريقَ العبادة ما أنا عليه، فمن رغب عنه، وتركه، فليس على طريقتي في العبادة.
ويوضّح هذا المعنى، ويُبيّنه أن عبادة اللَّه إنما هي امتثال أوامره الواجبة والمندوبة، واجتناب نواهيه المحظورة والمكروهة، وما من زمان من الأزمان إلا وتتوجّه على المكلّف فيه أوامر، أو نواهٍ، فمن قام بوظيفة كلِّ وقتٍ فقد أدّى العبادة، وقام بها، فإذا قام بالليل مصلّيًا، فقد قام بوظيفة ذلك الوقت، فإذا احتاج إلى النوم لدفع ألم السهر، ولتقوية النفس على العبادة، ولإزالة تشويش مدافعة النوم المشوِّشة للقراءة، أو لإعطاء الزوجة حقّها من المضاجعة كان نومه ذلك عبادةً كصلاته، وقد بين هذا المعنى سلمانُ الفارسي لأبي الدرداء بقوله: "لكني أقوم، وأنام، وأحتسب في نومتى ما أحتسبة في قومتي"، وكذلك القول في الصيام، وأما التزويج فيجري فيه مثل ذلك، وزيادة نيّة تحصين الفرج، والعين، وسلامة الدين، وتكثير نسل المسلمين، وبهذه القصود
¬__________
(¬1) - "فتح" 10/ 131.

الصفحة 45