كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 28)

ونقل السيوطيّ في "مرقاة الصعود شرح سنن أبي داود" عن السبكيّ -رحمهما اللَّه تعالى-، أنه قال: رفع القلم هل هو حقيقة، أو مجازٌ فيه احتمالان:
[أحدهما]: وهو المنقول المشهور أنه مجازٌ، لم يُرد فيه حقيقة الرفع، وإنما هو كنايةٌ عن عدم التكليف، ووجه الكناية فيه أن التكليف يلزم منه الكتابة، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وغير ذلك، ويلزم من الكتابة القلم؛ لأنه آلةٌ لها، فالقلم لازم للتكليف، وانتفاء اللازم يدلّ على انتفاء الملزوم، فلذلك كنى بنفي القلم عن نفي الكتابة، وهي من أحسن الكنايات، وأَتَى بلفظ الرفع إشعارًا بأن التكليف لازم لبني آدم، إلا هؤلاء الثلاثة، وأن صفة الوضع أمرٌ ثابتٌ للقلم، لا ينفكّ عن غير الثلاثة موضوعًا عليه حتّى يُرفع، ولو لم يوضع، أو لم يكتب على ثلاثة لم يكن به إشعارٌ بذلك، وأنه في الأصل متّصفٌ بوضع، وجريان على كلّ مخلوق من العاملين، فهذه فائدة جليلة، فاستَعمَل الرفعَ في موضع عدم الوضع بطريق المجاز، واستعمل عدم وضع القلم في موضع عدم الكتابة بطريق المجاز، وعدمُ الكتابة مجاز في عدم التكليف، والوضع الذي أشعر به لفظ الرفع مجاز أيضًا بالنسبة إلى هؤلاء الثلاثة، إذ لم يتقدّم في حقهم إلا بطريق القوّة، لا بطريق الفعل.
[والثاني]: أن يراد حقيقة القلم الذي ورد به الحديث: "أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"، فأفعال العباد كلّها حسنها وسيّئها جرى به ذلك القلم، وكتبه حقيقةً، فثواب الطاعات، وعقاب السيّئات كتبه حقيقة، وقد خلقه اللَّه لذلك، وأمره بكتبه، وصار موضوعًا على اللوح المحفوظ ليكتب ذلك فيه، جاريًا إلى يوم القيامة، وقد كتب ذلك، وفرغ منه، وحُفظ، وفعل الصبيّ، والمجنون، والنائم لا أثر فيه، فلا يكتب القلم إثمه، ولا التكليف به، فحكمُ اللَّه بأن القلم لا يكتبه من بين كلّ الأشياء رفيع للقلم الموضوع للكتابة، والرفع فعله تعالى، فالرفع في نفسه حقيقةٌ، والقلم حقيقة، والمجاز في شيء واحد، وهو أن القلم لم يكن موضوعًا على هؤلاء الثلاثة، إلا بالقوّة، والتهيّءِ لأن يكتب ما صدر منهم، فسمّي منعه من ذلك رفعًا، فمن هذا الوجه يشارك هذا الاحتمالُ للاحتمال الأول، ويفارقه فيما قبله، واللَّه تعالى أعلم، وعلمه أحكم انتهى (¬1).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الاحتمال الثاني هو الصواب، والأول تكلّف بارد، وتعسّف بعيد؛ فالنصوص مهما أمكن حملها على الحقيقة، لا تُحمل على المجاز،
¬__________
(¬1) هكذا ذكره السيوطيّ في "مرقاة الصعود شرح سنن أبي داود" نقلته من هامش النسخة الهندية لسنن أبي داود ص 604.

الصفحة 351