كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 28)

قال الحافظ: والبعض الذي أشار إليه من الشافعيّة هو وجهٌ معروفٌ عندهم، وكذلك حكى الوجوب في "البحر" عن أحد قولي الشافعيّ، وقد جزم به سُليم الرازيّ، وقال: إنه ظاهر نصّ "الأمّ"، ونقله عن النصّ أيضًا أبو إسحاق الشيرازيّ في "المهذّب"، وهو قول أهل الظاهر، كما صرّح به ابن حزم. انتهى (¬1).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن من النظر في الأدلّة أن الأرجح هو مذهب من قال بوجوب الوليمة على القادر عليها؛ لأنها ثبتت عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - قولًا وفعلًا، والقول أمرٌ، وهو للوجوب إلا عند وجود صارف عنه، والقائلون بالاستحباب لم يأتوا بصارف، غير دعوى الإجماع، وقد عرفت أنها دعوى باطلة، فقد قال بالوجوب بعض أهل العلم، وهو نصّ الشافعيّ في "الأمّ"، وقول أهل الظاهر، فلا إجماع، فبقي دليل الوجوب بلا معارض، فوجب القول به. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم إجابة الدعوة:
ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإجابة إليها، وهو المشهور عند الشافعيّة، والحنابلة، وقالوا: إنها فرض عين، ونصّ عليه مالك، وقال به أهل الظاهر، ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه، وابن عبد البرّ الإجماع عليه. وذهب بعضهم إلى استحبابها، قاله بعض الشافعيّة، والحنابلة، وقال أبو الحسن من المالكيّة: إنه المذهب، وصرّح صاحب "الهداية" من الحنفيّة بأن الإجابة سنّةٌ، لكنه استدلّ بقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من لم يُجب الدعوة، فقد عطى أبا القاسم"، وشبّهها فيما إذا كان هناك غناء ونحوه بصلاة الجنازة واجبة الإقامة، وإن حضرتها نياحة، وذلك يُفْهِمُ الوجوب. وقال بعض الشافعيّة، والحنابلة: إجابتها فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين. وحكى الشيخ تقيّ الدين في "شرح الإلمام" عن بعضهم أنه خصّ الوجهين في إجابتها فرض عين، أو كفاية بما إذا دُعي الجميع، وقال: لو خصّ كلّ واحد بالدعوة، تعيّنت الإجابة على الكلّ (¬2).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي أن الحقّ هو الذي عليه الجمهور، وهو كون الإجابة فرض عين؛ لوضوح أدلّته؛ كحديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -: "ومن ترك الدعوة، فقد عصى اللَّه ورسوله". متّفقٌ عليه. وحديث ابن عمر - رضي اللَّه تعالى عنهما -: "من دُعي إلى وليمة، فلم يأتها، فقد عصى اللَّه ورسوله". رواه أبو عوانة في "صحيحه". فهذا نصّ صريح في عصيان من لم يجب الدعوة، ولا يُطلق العصيان إلا على ترك الواجب،
¬__________
(¬1) "فتح" 10/ 288.
(¬2) "طرح التثريب" 7/ 70/ 71.

الصفحة 64