كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 29)

والأصل فيه خبر بَريرة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: "كاتبت بريرة، فخيّرها رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - في زوجها، وكان عبدًا، فاختارت نفسها. قال عروة: ولو كان حرًّا ما خيّرها رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -. رواه مالكٌ في "الموطأ" (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائيّ (¬3). ولأن عليها ضَررًا في كونها تحت عبدٍ، فكان لها الخيار، كما لو تزوّج حرّةً على أنه حرّ، فبان عبدًا، فإن اختارت الفسخ، فلها فراقه، وإن رضيت الْمُقامَ معه لم يكن لها فراقه بعد ذلك؛ لأنها أسقطت حقّها، وهذا مما لا خلاف فيه بحمد اللَّه تعالى.
قال: وإن أُعتقت تحت حرّ، فلا خيار لها. وهذا قول ابن عمر، وابن عبّاس، وسعيد بن المسيّب، والحسن، وعطاء، وسليمان بن يسار، وأبي قلابة، وابن أبي ليلى، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ، وإسحاق. وقال طاوس، وابن سيرين، ومجاهد، والنخعيّ، وحمّاد بن أبي سليمان، والثوريُّ، وأصحاب الرأي: لها الخيار؛ لما روى الأسود، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -: أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - خيّر بريرة، وكان زوجها حرًّا. رواه النسائيّ (¬4)، ولأنها كملت بالحرّية، فكان لها الخيار، كما لو كان زوجها عبدًا.
قال: ولنا أنها كافأت زوجها في الكمال، فلم يثبت لها الخيار، كما لو أسلمت الكتابيّة تحت مسلم. فأما خبر الأسود، عن عائشة، فقد روى عنها القاسم بن محمد، وعروة أن زوج بريرة كان عبدًا، وهما أخصّ بها من الأسود؛ لأنهما ابن أخيها، وابن أختها. وقد روى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدًا، فتعارضت روايتاه. وقال ابن عباس: كان زوج بريرة عبدًا أسود لبني المغيرة، يقال له مغيث. رواه البخاريّ وغيره. وقالت صفيّة بنت عبيد: كان زوج بريرة عبدًا أسود. وقال أحمد: هذا ابن عبّاس، وعائشة قالا في زوج بريرة: إنه عبدٌ، رواية علماء المدينة، وعَمَلهم، وإذا روى أهل المدينة حديثًا، وعملوا به، فهو أصحّ شيء، وإنما يصحّ أنه حرّ عن الأسود وحده، فأما غيره فليس بذاك. قال: والعقد صحيح، فلا يُفسخ بالمختلف فيه، والحرّ فيه اختلاف، والعبد لا اختلاف فيه، ويُخالف الحرّ العبدَ؛ لأن العبد نقصٌ، فإذا كملت تحته تضرّرت ببقائها عنده، بخلاف الحرّ. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- (¬5).
¬__________
(¬1) "الموطّأ"2/ 562. بل الحديث متّفقٌ عليه، كما تقدّم تخريجه.
(¬2) "سنن أبي داود" 1/ 517.
(¬3) "سنن النسائي" يأتي بعد باب 6/ 162.
(¬4) يأتي في الباب التالي، إن شاء اللَّه تعالى.
(¬5) "المغني" 10/ 68 - 70.

الصفحة 20