كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 29)

عبدًا، وسنده صحيح.
وقال النوويّ: يؤيّد قول من قال: إنه كان عبدًا قولُ عائشة: "كان عبدًا, ولو كان حرًا لم يُخيّرها"، فأخبرت وهي صاحبة القصّة بأنه كان عبدًا، ثم علّلت بقولها: "ولو كان حرًّا لم يُخيرها"، ومثلُ هذا لا يكاد أحدٌ يقوله إلا توقيفًا.
وتُعُقّب بأن هذه الزيادة في رواية جرير، عن هشام بن عروة في آخر الحديث، وهي مدرجة من قول عروة، بُيِّنَ ذلك في رواية مالك، وأبي داود، والنسائيّ. نعم وقع في رواية أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: "كانت بريرة مكاتبة لأناس من الأنصار، وكانت تحت عبد ... " الحديث، أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبيهقيّ. وأسامة فيه مقال.
وأما دعوى أن ذلك لا يُقال: إلا بتوقيف، فمردودة، فإن للاجتهاد فيه مجالاً. قال الدارقطنيّ: وقال إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: كان حرًّا. قال الحافظ: وأصرح ما رأيته في ذلك رواية أبي معاوية: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان زوج بريرة حرًّا، فلما أُعتقت خُيّرت ... " الحديث. أخرجه أحمد عنه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن إدريس، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان زوج بريرة حرًّا، ومن وجه آخر عن النخعيّ، عن الأسود، أن عائشة حدّثته "أن زوج بريرة كان حرًّا حين أُعتقت".
فدلّت الروايات المفصّلة التي قدّمتها آنفًا على أنه مدرجٌ من قول الأسود، أو من دونه، فيكون من أمثلة ما أُدرج في أول الخبر، وهو نادرٌ، فإن الأكثر أن يكون في آخره، ودونه أن يقع في وسطه، وعلى تقدير أن يكون موصولاً، فترجّح رواية من قال: كان عبدًا بالكثرة، وأيضًا آل المرء أعرف بحديثه، فإن القاسم ابن أخي عائشة، وعروة ابن أختها، وتابعهما غيرهما، فروايتهما أولى من رواية الأسود، فإنهما أقعد بعائشة، وأعلم بحديثها. ويترجّح أيضًا بأن عائشة كانت تذهب إلى أن الأمة إذا عتقت تحت الحرّ، لا خيار لها، وهذا بخلاف ما روى العراقيّون عنها، فكان يلزم على أصل مذهبهم أن يأخذوا بقولها، ويدعوا ما روي عنها, لا سيّما، وقد اختلف عنها فيه. وادّعى بعضهم أنه يمكن الجمع بين الروايتين يحمل قول من قال: كان عبدًا على اعتبار ما كان عليه، ثم أعتق، فلذلك قال من قال: كان حرًّا. ويردّ هذا الجمع ما تقدّم من قول عروة: كان عبدًا, ولو كان حرًّا لم تُخيَّر. وأخرجه الترمذيّ بلفظ: "أن زوج بريرة كان عبدًا أسود يوم أُعتقت"، فهذا يعارض الرواية المتقدّمة عن الأسود، ويعارض الاحتمال المذكور احتمالُ أن يكون من قال: كان حرًّا، أراد ما آل إليه أمره، وإذا

الصفحة 26