كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 29)

"فلا إذن"، فلو قال: فلا واللَّه إذًا، لكان مساويًا لما وقع هنا، وهو قوله: "لا ها اللَّه إذًا" من كلّ وجه، لكنه لم يحتج هناك إلى القسم، فتركه. قال: فقد وضح تقرير الكلام، ومناسبته، واستقامته معنىً، ووضعًا، من غير حاجة إلى تكلّف بعيد، يخرج عن البلاغة، ولا سيّما من ارتكب أبعد، وأفسد، فجعل "ها" للتنبيه، و"ذا" للإشارة، وفصل بينهما بالمقسم به. قال: وليس هذا قياسًا، فيطّرد، ولا فصيحًا، فيحمل عليه الكلام النبويّ، ولا مرويًّا برواية ثابتة. قال: وما وُجد للعذريّ، وغيره، فإصلاح من اغترّ بما حكي عن أهل العربية، والحقّ أحقّ أن يتّبع.
وقال بعض من أدركناه، وهو أبو جعفر الغرناطيّ، نزيل حَلَب في حاشية نسخته من البخاريّ: استرسل جماعة من القدماء في هذا الإشكال إلى أن جعلوا المخلص منه أن اتهموا الأثبات بالتصحيف، فقالوا: والصواب: "لا ها اللَّه ذا" باسم الإشارة، قال: ويا عجبًا من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة، ويطلبون لها تأويلاً. وجوابهم أن "ها اللَّه" لا يستلزم اسم الإشارة، كما قال ابن مالك، وأما جعل "لا يعمِد" جواب "فأَرْضِهِ"، فهو سبب الغلط، وليس بصحيح ممن زعمه، وإنما هو جواب شرط مقدّر، يدلّ عليه "صدق، فأرضه"، فكأن أبا بكر قال: إذا صدق في أنه صاحب السلب إذًا لا يعمد إلى السلب، فيُعطيك حقّه، فالجزاء على هذا صحيحٌ؛ لأن صدقه سببُ أن لا يفعل ذلك. قال: وهذا واضحٌ، لا تكلّف فيه انتهى. قال الحافظ: وهو توجيه حسنٌ، والذي قبله أقعد.
ويؤيّد ما رجّحه من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع هذه الجملة من الأحاديث:
(منها): ما وقع في حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها - في قصّة بريرة لَمّا ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء قالت: فانتهرتها، فقلت: "لا ها اللَّه إذًا". (ومنها): ما وقع في قصّة جُليبيب -بالجيم، والموحّدتين، مصغّرًا-: "أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتّى أستأمر أمّها، قال: نعم إذًا، قال: فذهب إلى امرأته، فذكر لها، فقالت: لا ها اللَّه إذًا، وقد منعناها فلانًا" الحديث، صحّحه ابن حبّان من حديث أنس. (ومنها): ما أخرجه أحمد في "الزهد" قال: "قال مالك بن دينار للحسن، يا أبا سعيد لو لبست مثل عباءتي هذه، قال: لا ها اللَّه إذًا ألبس مثل عباءتك هذه"، وفي "تهذيب الكمال" في ترجمة ابن أبي عتيق: "أنه دخل على عائشة في مرضها، فقال: كيف أصبحت جعلني اللَّه فداك؟ قالت: أصبحت ذاهبة، قال: فلا إذًا، وكان فيه دُعابة". ووقع في كثير من الأحاديث في سياق الإثبات بقسم، وبغير قسم، فمن ذلك

الصفحة 35