كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 29)

كانت بمعنى "على" لم يُنكره.
فإن قيل: ما أنكر إلا إرادة الاشتراط في أوّل الأمر. فالجواب أن سياق الحديث يأبى ذلك. وضعّفه أيضًا ابن دقيق العيد، وقال: اللام لا تدلّ بوضعها على الاختصاص النافع، بل على مطلق الاختصاص، فلا بُدّ في حملها على ذلك من قرينة.
وقال آخرون: الأمر في قوله: "واشترطي"، للإباحة، وهو على وجه التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم، فوجوده وعدمه سواء، وكأنه يقول: اشترطي، أو لا تشترطي، فذلك لا يُفيدهم. ويقوّي هذا التأويل قوله في رواية أيمن عند البخاريّ: "اشتريها، ودعيهم يشترطون ما شاؤوا". وقيل: كان النبيُّ - صلى اللَّه عليه وسلم - أعلمَ الناسَ بأن اشتراط البائع الولاء باطلٌ، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى على أهل بريرة، فلما أرادوا أن يشترطوا ما تقدّم لهم العلمُ ببطلانه أطلق الأمر، مُريدًا به التهديد على مآل الحال، كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ}، وكقول موسى: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}، أي فليس ذلك بنافعكم، وكأنّه يقول: اشترطي لهم، فسيعلمون أن ذلك لا ينفعهم. ويؤيّده قوله حين خطبهم: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا الخ"، فوبّخهم بهذا القول، مشيرًا إلى أنه قد تقدّم منه بيان حكم اللَّه بإبطاله، إذ لو لم يتقدّم بيان ذلك، لبدأ ببيان الحكم في الخطبة، لا بتوبيخ الفاعل؛ لأنه كان يكون باقيًا على البراءة الأصليّة.
وقيل: الأمر فيه بمعنى الوعيد الذي ظاهره الأمر، وباطنه النهي، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، وقال الشافعيّ في "الأمّ": لما كان من اشترط خلاف ما قضى اللَّه ورسوله عاصيًا، وكانت في المعاصي حدودٌ، وآدابٌ، وكان من أدب العاصين أن يُعطل عليهم شروطهم ليرتدعوا عن ذلك، ويرتدع به غيرهم، كان ذلك من أيسر الأدب. وقال غيره: معنى "اشترطي": اتركي مخالفتهم فيما اشترطوه، ولا تُظهري نزاعهم فيما دعوا إليه، مراعاة لتنجيز العتق؛ لتشوّف الشارع إليه، وقد يعبّر عن الترك بالفعل، كقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي نتركهم يفعلون ذلك، وليس المراد بالإذن إباحة الإضرار بالسحر. قال ابن دقيق العيد: وهذا وإن كان محتملاً، إلا أنه خارجٌ عن الحقيقة من غير دلالة على المجاز من حيث السياق. وقال النوويّ: أقوى الأجوبة أن هذا الحكم خاصّ بعائشة في هذه القضيّة، وأن سببه المبالغة في الرجوع عن هذا الشرط؛ لمخالفته حكم الشارع، وهو كفسخ الحجّ إلى العمرة، كان خاصًّا بتلك الحجّة، مبالغةً في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحجّ.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي قوّاه النوويّ ضعيفٌ عندي؛ إذ خطبته - صلى اللَّه عليه وسلم - المذكورة في الحديث تردّ هذه الدعوى، حيث عممت بإبطال كلّ شروطٍ منافية لحكم

الصفحة 38