كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 30)

بالكلام الأول، ووصله أن يكون نَسَقًا، فإن كان بينهما سكوت انقطع، إلا إن كانت سكتة تذكر، أو تنفّس، أو عِيّ، أو انقطاع صوت، وكذا يقطعه الأخذ في كلام آخر، ولخّصه ابن الحاجب، فقال: شرطه الاتصال لفظًا، أو فيما في حكمه، كقطعه لتنفّس، أو سُعال، ونحوه، مما لا يمنع الاتصال عرفًا، واختلف هل يقطعه ما يقطع القبول عن الإيجاب؟ على وجهين للشافعيّة، أصحّهما أنه ينقطع بالكلام اليسير الأجنبيّ، وإن لم ينقطع به الإيجاب والقبول، وفي وجه لو تخلّل أستغفر اللَّه لم ينقطع، وتوقّف فيه النوويّ، ونصّ الشافعيّ يؤيّده، حيث قال: تذكر فإنه من صور الذكر عرفًا، ويلتحق به لا إله إلا اللَّه، ونحوها. وعن طاوس، والحسن له أن يستثني ما دام في المجلس. وعن أحمد نحوه، وقال: ما دام في ذلك الأمر. وعن إسحاق مثله، وقال: إلا أن يقع سكوت. وعن قتادة إذا استثنى قبل أن يقوم، أو يتكلّم. وعن عطاء قدر حلب ناقة. وعن سعيد بن جبير إلى أربعة أشهر. وعن مجاهد بعد سنتين. وعن ابن عبّاس أقوال: منها ولو بعد حين. وعنه كقول سعيد. وعنه شهر. وعنه سنة. وعنه أبدًا. قال أبو عُبيد: وهذا لا يؤخذ على ظاهره؛ لأنه يلزم منه أن لا يحنث أحدٌ في يمينه، وأن لا تتصوّر الكفّارة التي أوجبها اللَّه تعالى على الحالف، قال: ولكن وجه الخبر سقوط الإثم عن الحالف لتركه الاستثناء؛ لأنه مأمور به في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، فقال ابن عبّاس: إذا نسي أن يقول: إن شاء اللَّه يستدركه، ولم يُرد أن الحالف إذا قال ذلك بعد أن انقضى كلامه أن ما عقده باليمين ينحلّ.
وحاصله حمل الاستثناء المنقول عنه على لفظ إن شاء اللَّه فقط، وحمل إن شاء اللَّه على التبرّك، وعلى ذلك حمل الحديث المرفوع الذي أخرجه أبو داود وغيره، موصولاً، ومرسلاً أن النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: "لأغزونّ قريشًا"، ثلاثًا، ثم سكت، ثم قال: "إن شاء اللَّه"، أو على السكوت لتنفّس، أو نحوه. وكذا ما أخرجه ابن إسحاق في سؤال من سأل النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - عن قصَّة أصحاب الكهف: "غدًا أجيبكم"، فأخّر الوحي، فنزلت: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، فقال: إن شاء اللَّه، مع أن هذا لم يرد هكذا من وجه ثابت.
ومن الأدلة على اشتراط اتصال الاستثناء بالكلام قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير". فإنه لو كان الاستثناء يفيد بعد قطع الكلام لقال: فليستثن؛ لأنه أسهل من التكفير، وكذا قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}، فإن قوله: استثن أسهل من التحيّل لحلّ اليمين

الصفحة 357