كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 30)

أيمان اللغو ما كان في المراء، والهزل، والمزاحة، والحديثِ الذي لا يُعقّد عليه القلبُ، وأيمان الكفّارة كلّ يمين حلف عليها على وجه من الأمر في غضب، أو غيره، ليَفعَلَنَّ، أو لَيَترُكنّ، فذلك عَقدُ الأيمان التي فرضَ اللَّه تعالى فيها الكفّارة. ولأن اللغو في كلام العرب غير المعقود عليه، وهذا كذلك.
وممن قال: لا كفّارة في هذا ابنُ عبّاس، وأبو هريرة، وأبو مالك، وزُرارة بن أوفَى، والحسن، والنخعيّ، ومالكٌ، وهو قول من قال: إنه من لغو اليمين، ولا نعلم في هذا خلافًا.
وجه ذلك قول اللَّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية [المائدة: 89]، فجعل الكفّارة لليمين التي يُؤاخذ بها، ونفَى المؤاخذة باللغو، فلزم انتفاء الكفّارة؛ ولأن المؤاخذة يَحتمل أن يكون معناها إيجاب الكفّارة، بدليل أنها تجب في الأيمان التي لا مأثم فيها. وإذا كان المؤاخذة إيجاب الكفّارة، فقد نفاها في اللغو، فلا تجب، ولأنه قول من سمّينا من الصحابة، ولم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم، فكان إجماعًا؛ ولأن قول عائشة - رضي اللَّه عنها - في تفسير اللغو، وبيان الأيمان التي فيها الكفّارة خرج تفسيرًا لكلام اللَّه تعالى، وتفسير الصحابيّ مقبول. انتهى كلام ابن قُدامة -رحمه اللَّه تعالى- (¬1).
وقال الحافظ أبو عمر ابن عبد البرّ -رحمه اللَّه تعالى-: وذكر سفيان الثوريّ في "جامعه"، وذكره المروزيّ عنه أيضًا، قال سفيان: الأيمان أربعة: يمينان يُكفّران، وهو أن يقول الرجل: واللَّه لا أفعل، فيفعلُ، أو يقول: واللَّه لأفعلنّ، ثم لا يفعل. ويمينان لا يكفّران: وهو أن يقول الرجل: واللَّه ما فعلتُ، وقد فعل، أو يقول: واللَّه لقد فعلتُ، وما فعل.
قال المروزيّ: أما اليمينان الأوليان، فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان، وأما اليمينان الأخريان، فقد اختَلف أهل العلم فيهما،، فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقًا، يرى أنه على ما حلف عليه، فلا إثم عليه، ولا كفّارة عليه في قول مالك، وسفيان الثوريّ، وأصحاب الرأي، وكذلك قال أحمد، وأبو عبيد. وقال الشافعيّ: لا إثم عليه، وعليه الكفّارة. قال المروزيّ: وليس قول الشافعيّ في هذا بالقويّ، قال: وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا، وقد فعل متعمّدًا للكذب، فهو آثمٌ، ولا كفّارة عليه في قول عامّة
¬__________
(¬1) "المغني" 13/ 449 - 450.

الصفحة 370