كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 32)

فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُون بِالاسْتِتَابةِ، هَلْ يُكْتَفَى بِالْمَرَّةِ، أَوْ لَا بُدّ من ثَلَاث؟، وَهَل الثَّلَاث فِي مَجْلِس، أَوْ فِي يَوْم، أَوْ فِي ثَلَاثَة أَيَّام؟، وَعَنْ عَلِيّ: يُسْتَتَاب شَهْرًا، وَعَنْ النَّخَعِيِّ: يُسْتَتَاب أَبَدًا، كَذَا نُقِلَ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَالتَّحْقِيق أَنَّهُ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الرِّدَّة.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: الأرجح عندي قول الجمهور بأن المرتدّ يستتاب؛ لوضوح أدلّته. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في استتابة الزنديق:
ذهب بعضهم إلى قتل الزِّنْدِيق، مِن غير استِتابة، مستدلًا بحديث عليّ - رضي اللَّه تعالى عنه - المتقدّم في الباب الماضي.
وتُعُقِّب بِأَنَّ فِي بَعْض طُرُقه: أَنَّ عَليًّا اسْتَتَابَهُمْ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِي عَلَى الْقَبُول مُطْلَقًا، وَقَالَ: يُسْتَتَاب الزِّنْدِيق، كَمَا يُسْتَتَاب الْمُرْتَدِّ، وَعَنْ أَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَة، رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَتَاب، وَالأُخْرَى إِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ، لَمْ تُقْبَل تَوْبَته، وَهُوَ قَوْل اللَّيْث، وَإسْحَاق، وحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاق الْمَرْوَزِيِّ، مِنْ أَئِمَّة الشَّافِعِيَّة، وَلَا يَثْبُت عَنْهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ تَحْرِيف مِنْ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْه، وَالأَوَّل هُوَ المَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة، وحُكي عَنْ مَالِك: إِنْ جَاءَ تَائِبًا يُقْبَل مِنْهُ، وَإلَّا فَلا، وَبِهِ قَالَ أبُو يُوسُف، وَاخْتَارَهُ الأُسْتَاذَانِ: أَبُو إِسْحَاق الإسْفَرَايِنِيّ، وَأَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ. وَعَنْ بَقِيَّة الشَّافِعِيَّة أَوْجُه، كَالْمَذَاهِبِ الْمَذْكُورَة، وَخَامِس يُفْصَلُ بَيْن الداعِية، فَلَا يُقْبَل مِنْهُ، وتُقْبَل تَوْبَة غَيْر الدَّاعِيَة. وَأَفْتَى ابْن الصَّلَاح بِأَنَّ الزِّنْدِيق، إِذَا تَابَ تُقْبَل تَوْبَته، ويُعَزَّر، فَإنْ عَادَ بَادَرْنَاهُ بِضَرْبِ عُنُقه، وَلَمْ يُمْهَل.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5]، فَقَالَ: الزِّنْدِيق لَا يُطَّلَع عَلَى صَلَاحه؛ لِأَنَّ الْفَسَاد إِنَّمَا أَتَى مِمَّا أَسَرَّهُ، فَإِذَا اطُّلِع عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ الإقْلَاع عَنْهُ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} الآية [النساء: 137].
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَاد مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فَسَّرَهُ ابْن عبّاس، فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْن أَبِي حَاتِم وَغَيْره.
وَاسْتَدَلَّ لِمالِك بِأَنَّ تَوْبَة الزِّنْدِيق لَا تُعْرَف، قَالَ: وَإنَّمَا لَمْ يَقْتُل النَّبِيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - المُنافِقِينَ؛ لِلتَّأْليفِ، ولِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُمْ لَقَتَلَهُمْ بِعِلْمِهِ، فَلَا يُؤمَن أَنْ يَقُول قَائِل: إِنَّمَا قَتَلَهُم لِمَعْنًى آخَر.
وَمِنْ حُجَّة مَنْ اسْتَتَابَهُم: قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} الآية [المجادلة: 16]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِظْهَار الإيمَان يُحْصَّنُ مِنْ الْقَتْل، وكُلّهمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَحْكَام الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِر، واللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر، وقد قال - صلى اللَّه عليه وسلم - لِأُسَامَة: "هَلَّا شَقَقَت عَنْ قَلْبه"، وَقَالَ لِلَّذِي

الصفحة 9