كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 34)
الأول بالنقد بأقلّ منْ الثمن، فهذه أيضًا عِينة، وهي أهون منْ الأولى، وسُمّيت عِينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين هو المال الحاضر منْ النقد، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة، تَصِلُ إليه معجّلةً. انتهى.
وَقَالَ ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي "المغني": منْ باع سلعة بثمن مؤجل، ثم اشتراها بأقل منه نقدًا، لم يجز فِي قول أكثر أهل العلم، رُوي ذلك عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، وبه قَالَ أبو الزناد، وربيعة، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وأجازه الشافعيّ؛ لأنه ثمن يجوز بيعها به، منْ غير بائعها، كما لو باعها بمثل ثمنها.
ولنا ما روى غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته العالية بنت أيفع ابن شُرَحبيل، أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم، وامرأته عَلَى عائشة -رضي الله عنها-، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما منْ زيد بن أرقم، بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم، أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن يتوب، رواه الإِمام أحمد، وسعيد بن منصور، والظاهر أنها لا تقول مثل هَذَا التغليظ، وتُقْدِم عليه، إلا بتوقيف، سمعته منْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجرى مجرى روايتها ذلك عنه؛ ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يُدخِل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة، إلى أجل معلوم. وكذلك روي عن ابن عباس فِي مثل هذه المسألة، أنه قَالَ: أرى مائة بخمسين، بينهما حريرة -يعني خرقة حرير، جعلاها فِي بيعهما، والذرائع معتبرة؛ لما قدمناه، فأما بيعها بمثل الثمن، أو أكثر فيجوز؛ لأنه لا يكون ذريعة، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت، مثل أن هُزِلَ العبد، أو نَسِي صناعة، أو تخرق الثوب، أو بَلِي جاز له شراؤها بما شاء؛ لأن نقص الثمن لنقص المبيع، لا للتوسل إلى الربا. وإن نقص سعرها، أو زاد لذلك، أو لمعنى حدث فيها، لم يجز بيعها بأقل منْ ثمنها، كما لو كانت بحالها، نص أحمد عَلَى هَذَا كله.
قَالَ: وإن اشتراها بعَرْض، أو كَانَ بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد جاز، وبه قَالَ أبو حنيفة، ولا نعلم فيه خلافا؛ لأن التحريم إنما كَانَ لشبهة الربا، ولا ربا بين الأثمان والعروض، فأما إن باعها بنقد، ثم اشتراها بنقد آخر، مثل أن يبيعها بمائتي درهم، ثم اشتراها بعشرة دنانير، فَقَالَ أصحابنا -الحنبلية-: يجوز؛ لأنهما جنسان، لا يحرم التفاضل بينهما، فجاز كما لو اشتراها بعرض، أو بمثل الثمن. وَقَالَ أبو حنيفة: لا
الصفحة 323
389