كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 35)

ورسوله. وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها هَذَا المرسل، والمرسل منها له ما يوافقه، وَقَدْ عمل به بعض الصحابة منْ السلف، وهذا حجة بإتفاق الفقهاء.
[الدليل السادس]: ما رواه أبو داود منْ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "منْ باع بيعتين، فله أوكسهما، أو الربا"، وللعلماء فِي تفسيره قولان:
[أحدهما]: أن يقول: بعتك بعشرة نقدًا، وعشرين نسيئة، وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك، ففسّره فِي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، قَالَ: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صفقتين فِي صفقة"، قَالَ سماك: الرجل يبيع البيع، فيقول: هو عَلَى نساء بكذا، وبنقد بكذا. وهذا التفسير ضعيف؛ فإنه لا يدخل الربا فِي هذه الصورة، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
[والتفسير الثاني]: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة عَلَى أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا معنى الْحَدِيث، الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله: "فله أوكسهما، أو الربا"، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد، فيُربي، أو الثمن الأول، فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين فِي صفقة، فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة فِي صفقة واحدة، ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجّلة، أكثر منها, ولا يستحقّ إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر، كَانَ قد أخذ الربا، فتدبّر مطابقة هَذَا التفسير لألفاظه -صلى الله عليه وسلم-، وانطباقه عليها. ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإِمام أحمد، عن ابن عمر، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "أنه نهى عن بيعتين فِي بيعة، وعن سلف وبيع"، فجمعه بين هذين العقدين فِي النهي لأن كلا منهما يؤول إلى الربا؛ لأنهما فِي الظاهر بيع، وفي الحقيقة ربا.
ومما يدلّ عَلَى تحريم العِينة: حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- يرفعه: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، والمحلّل، والمحلّل له". ومعلوم أن الشاهدين، والكاتب إنما يكتب، ويشهد عَلَى عقد صورته جائزة الكتابة، والشهادة، لا يشهد بمجرّد الربا، ولا يكتبه، ولهذا قرنه بالمحلّل والمحلّل له، حيث أظهرا صورة النكاح، ولا نكاح، كما أظهر الكاتب والشاهدان صورة البيع، ولا بيع.
وتأمّل كيف لعن فِي الْحَدِيث الشاهدين، والكاتب، والآكل، والموكل، فلعن المعقود له، والمعين له عَلَى ذلك العقد، ولعن المحلّل، والمحلّل له، فالمحلل له هو الذي يُعقد التحليل لأجله، والمحلّل هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي هو المعان عَلَى أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به، فصلوات الله عَلَى منْ أوتي جوامع الكلم.

الصفحة 139