كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 35)

المقترض ضمنًا، فأشبه أخذ السفتجة به، وإيفاءه إياه فِي بلد آخر، منْ حيث إنه مصلحة لهما جميعًا.
والمنفعة التي تجرّ إلى الربا فِي القرض هي التي تخصّ المقرض، كسكنى دار المقترض، وركوب دوابّه، واستعماله، وقبول هديّته، فإنه لا مصلحة له فِي ذلك، بخلاف هذه المسائل، فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي منْ جنس التعاون والمشاركة.
وأما "نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن ربح ما لم يُضمن": فهو كما ثبت عنه فِي حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، حيث قَالَ له: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم؟ قَالَ: "لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها، وتفرّقتما, وليس بينكما شيء"، فجوّز ذلك بشرطين: [أحدهما]: أن يأخذ بسعر يوم الصرف؛ لئلا يربح فيها, وليستقرّ ضمانه. [والثاني]: أن لا يتفرّقا إلا عن تقابض؛ لأنه شرط فِي صحّة الصرف؛ لئلا يدخله ربا النسيئة.
والنهي عن ربح ما لم يُضمن قد أشكل عَلَى بعض الفقهاء علّته، وهو منْ محاسن الشريعة، فإنه لم يتمّ عليه استيلاء، ولم تنقطع علق البائع عنه، فهو يطمع فِي الفسخ، والامتناع منْ الإقباض، إذا رأى المشتري قد ربح فيه، وإن أقبضه إياه، فإنما يُقبضه عَلَى إغماض، وتأسّف عَلَى ذوات الربح، فنفسه متعلّقة به، لم ينقطع طمعها منه. وهذا معلوم بالمشاهدة، فمن كمال الشريعة، ومحاسنها النهي عن الربح فيه، حَتَّى يستقرّ عليه، ويكون منْ ضمانه، فييأس البائع منْ الفسخ، وتنقطع علقه عنه. وَقَدْ نصّ أحمد عَلَى ذلك فِي الاعتياض عن دين القرض وغيره أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه؛ لئلا يربح فيما لم يضمن.
[فإن قيل]: هَذَا ينتقض عليكم بمسألتين:
[إحداهما]: بيع الثمار بعد بدُوّ صلاحها، فإنكم تجوّزون لمشتريها أن يبيعها عَلَى رؤوس الأشجار، وأن يربح فيها, ولو تلفت بجائحة لكانت منْ ضمان البائع، فيلزمكم أحد أمرين: إما أن تمنعوا بيعها، وإما أن لا تقولوا بوضع الجوائح، كما يقول الشافعيّ، وأبو حنيفة، بل تكون منْ ضمانه، فكيف تجمعون بين هَذَا وهذا؟.
[المسألة الثانية]: إنكم تجوّزون للمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة بمثل الأجرة وزيادة، مع أنها لو تلفت لكانت منْ ضمان المؤجر، فهذا ربح ما لم يُضمن؟
[قيل]: النقض الوارد إما أن يكون بمسألة منصوص عليها، أو مجمع عَلَى حكمها، وهاتان المسألتان غير منصوص عليهما, ولا مجمع عَلَى حكمهما، فلا يردان نقضًا،

الصفحة 70