كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 35)

فإن فِي جواز بيع المشتري ما اشتراه منْ الثمار عَلَى الأشجار كذلك روايتان منصوصتان عن أحمد، فإن منعنا البيع بطل النقض، وإن جوّزنا البيع، وهو الصحيح، فلأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن الثمار قد لا يمكن بيعها إلا كذلك، فلو منعناه منْ بيعها أضررنا به، ولو جعلناها منْ ضمانه إذا تلفت بجائحة أضررنا به أيضًا، فجوّزنا له بيعها؛ لأنها فِي حكم المقبوض بالتخلية بينه وبينها، وجعلناها منْ ضمان البائع بالجائحة؛ لأنها ليست فِي حكم المقبوض منْ جميع الوجوه، ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه، فلما كانت مقبوضة منْ وجه، غير مقبوضة منْ وجه، رتّبنا عَلَى الوجهين مقتضاهما، وهذا منْ ألطف الفقه.
وأما مسألة الإجارة، فاختلفت الرواية عن أحمد فِي جواز إجارة الرجل ما استأجره بزيادة عَلَى ثلاث روايات:
[إحداهنّ]: المنع مطلقًا؛ لئلا يربح فيما لم يضمن، وعلى هَذَا فالنقض مندفع.
[والثانية]: أنه إن جدّد فيها عمارة، جازت الزيادة، وإلا فلا؛ لأن الزيادة لا تكون ربحًا، بل هي فِي مقابلة ما أحدثه منْ العمارة، وعلى هذه الرواية أيضًا فالنقض مندفع.
[والثالثة]: أنه يجوز أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها مطلقًا، وهذا مذهب الشافعيّ، وهذه الرواية أصحّ، فإن المستأجر لو عطل المكان، وأتلف منافعه بعد قبضه لتلفت منْ ضمانه؛ لأنه قبضه القبض التامّ، ولكن لو انهدمت الدار، لتلفت منْ مال المؤجر؛ لزوال محلّ المنفعة، فالمنافع مقبوضة، ولهذا له استيفاؤها بنفسه، وبنظيره، وإيجارها، والتبرّع بها, ولكن كونها مقبوضة مشروط ببقاء العين، فإذا تلفت العين زال محلّ الاستيفاء، فكانت منْ ضمان المؤجر.
وسرّ المسألة أنه لم يربح فيما لم يضمن، وإنما هو مضمون عليه بالأجرة.
وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا تبع ما ليس عندك": فمطابق لنهيه -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغرر؛ لأنه إذا باع ما ليس عنده، فليس هو عَلَى ثقة منْ حصوله، بل قد يحصل له، وَقَدْ لا يحصل، فيكون غررًا، كبيع الآبق، والشارد، والطير فِي الهواء، وما تحمل ناقته ونحوه. قَالَ حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: يا رسول الله، الرجل يأتيني يسألني البيع ليس عندي، فأبيعه منه، ثم أمضي إلى السوق، فأشتريه، وأسلّمه إياه،؟ فَقَالَ: "لا تبع ما ليس عندك".
وَقَدْ ظنّ طائفة أن السلم مخصوص منْ عموم هَذَا الْحَدِيث، فإنه بيع ما ليس عنده، وليس كما ظنّوا، فإن الْحَدِيث إنما تناول بيع الأعيان، وأما السلم، فعقد عَلَى ما فِي الذمّة،، بل شرطه أن يكون فِي الذمّة، فلم أسلم فِي معيّن عنده كَانَ فاسدًا، وما فِي الذمّة مضمون مستقرّ فيها، وبيع ما ليس عنده إنما نُهي عنه لكونه غير مضمون عليه،

الصفحة 71