كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 36)

مرتكب الكبيرة كافر، مخلد فِي النار، إذا مات منْ غير توبة، وكذا قول المعتزلة: إنه فاسق مخلد فِي النار، فإن الطوائف المذكورين تعلقوا بهذا الْحَدِيث، وشبهه، وإذا احتمل ما قلناه، اندفعت حجتهم.
قَالَ القاضي عياض: أشار بعض العلماء، إلى أن فِي الْحَدِيث تنبيها عَلَى جميع أنواع المعاصي، والتحذير منها، فنبه بالزنا عَلَى جميع الشهوات، وبالسرقة عَلَى الرغبة فِي الدنيا، والحرص عدى الحرام، وبالخمر على جميع ما يَصُدُ عن الله تعالى، ويوجب الغفلة عن حقوقه، وبالانتهاب الموصوف عَلَى الاستخفاف بعباد الله، وترك توقيرهم، والحياء منهم، وعلى جمع الدنيا منْ غير وجهها.
وَقَالَ القرطبيّ بعد أن ذكره ملخصا: وهذا لا يتمشى إلا مع المسامحة، والأولى أن يقال: إن الْحَدِيث يتضمن التحرز منْ ثلاثة أمور، هى منْ أعظم أصول المفاسد، وأضدادها منْ أصول المصالح، وهى استباحة الفروج المحرمة، وما يؤدى إلى اختلال العقل، وخص الخمر بالذكر؛ لكونها أغلب الوجوه فِي ذلك، والسرقة بالذكر؛ لكونها أغلب الوجوه التي يؤخذ بها مال الغير بغير حق.
قَالَ الحافظ: وأشار بذلك إلى أن عموم ما ذكره الأول، يشمل الكبائر والصغائر، وليست الصغائر مرادة هنا؛ لأنها تُكَفَّر باجتناب الكبائر، فلا يقع الوعيد عليها، بمثل التشديد الذي فِي هَذَا الْحَدِيث. انتهى ما لَخّصه الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح" 14/ 6 - 8.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي لَخّص فيه الحافظ رحمه الله تعالى أقوال أهل العلم فِي تأويل حديث الباب نفيسٌ جدًّا، ويتضح منه أن أحسن التأويل هو ما نُقل عن حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما، وهو أنه يُنزع منه نور الإيمان، وَقَدْ أوضح كيفيّة نزعه لَمّا سأله عكرمة بأن شبّك أصابه، وأخرجها، ثم أعادها؛ لأنه ورد مرفوعاً، وخير ما فُسر به الوارد هو الوارد، ولأنه تفسير صحابي، وهو الراوي له، قَالَ فِي "ألفية الأثر":
وَخَيْرُهُ مَا جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أَوْ ... عَنِ الصَّحَابِيِّ وَرَاوٍ قَدْ حَكَوْا
وَقَدْ صحّ، كما سبق حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان"، فلا تفسير أحسن منْ تفسير حديثه -صلى الله عليه وسلم- بحديثه، قَالَ الله عز وجل: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، و"صاحب البيت أدرى بما فيه". والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

الصفحة 348