كتاب ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (اسم الجزء: 37)

ولا شك أن الحاجة ماسة بين النَّاس إلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه، لَجَرّ ذلك إلى سد باب العارية، وهو خلاف ما تدل عليه حكمة الشريعة، بخلاف ما إذا عَلم أنه يُقطع، فإن ذلك يكون أدعى إلى استمرار العارية، وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة، إذا ثبت حديث جابر -رضي الله عنه- فِي أن لا قطع عَلَى خائن.
وَقَدْ فَرَّ مِن هَذَا بعض منْ قَالَ بذلك، فخص القطع بمن استعار عَلَى لسان غيره، مخادعا للمستعار منه، ثم تصرف فِي العارية، وأنكرها لما طولب بها، فإن هَذَا لا يقطع بمجرد الخيانة، بل لمشاركته السارق فِي أخذ المال خفية.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: وفي هَذَا نظر لا يخفى، لأن الذين قالوا بالقطع فِي حجد العارية، لم يقيّدوه بهذا القيد، فتبصّر.
والحاصل أن ما ذهب إليه الجمهور منْ أنه لا قطع عَلَى جاحد العارية هو الحقّ؛ لقوّة أدلّته، ومن أقواها حديث جابر -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ليس عَلَى خائن، ولا منتهب، ولا مختلس قطع"، وهو حديث صحيح، واستتابة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- للمرأة فِي جحدها العارية؛ إذ لو كَانَ الجحد سرقة، لما استتابها، لأن الإمام لا يستتيب السارق بلا خلاف، ومن أقواها أيضًا ما سبق قريبا منْ كلام ابن دقيق العيد الذي قَالَ فيه الحافظ: وهذه أقوى الطرق فِي نظري.
وَقَدْ أجاد ابن قُدامة رحمه الله تعالى فِي تصحيحه رواية أحمد أنه لا قطع على جاحد العريّة، كما هو مذهب الجمهور، ودنك خلاصة عبارته:
واختلفت الرواية عن أحمد، فِي جاحد العارية، فعنه عليه القطع، وهو قول إسحاق، ثم ذكر دليله، وهو حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "أن امرأة كانت تستعير المتاع، وتجحده ... " الْحَدِيث، ثم قَالَ: وعنه: لا قطع عليه، وهو قول الخرقي، وأبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب، وسائر الفقهاء، وهو الصحيح -إن شاء الله تعالى- لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا قطع عَلَى الخائن"، ولأن الواجب قطع السارق، والجاحد غير سارق، وإنما هو خائن، فأشبه جاحد الوديعة، والمرأة التي كانت تستعير المتاع، إنما قُطعت لسرقتها، لا بجحدها، ألا ترى قوله: "إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه"، وقولَهُ: و"الذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم-، لقطعت يدها"، وفي بعض ألفاظ رواية هذه القصة، عن عائشة: "أن قريشا أهمهم شأن المخزومية، التي سرقت"، وذكرت القصة، رواه البخاريّ، وفي حديث: "أنها سرقت قَطِيفة"، فروى الأثرم بإسناده، عن مسعود بن الأسود، قَالَ: "لَمّا سَرَقت المرأة تلك القطيفة، منْ بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أعظمنا ذلك، وكانت امرأة منْ

الصفحة 23