كتاب صحيح الكتب التسعة وزوائده

توفاه الله عز وجل، فلو دونت كما دون القرآن، للزم أن ينكبَّ الصحابة على حفظ السنة مع حفظ القرآن، وفيه من الحرج والمشقة ما فيه، فكان لا بد من توفرهم - في تلك الفترة - على كتاب الله حفظاً ودراسة وتفهما.
كل ذلك وغيره - مما توسع العلماء في بيانه - كان من أسرار عدم تدوين السنة في العهد النبوي، وبهذا نفهم سر النهي عن كتابتها في الحديث الوارد في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري عندما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه).
الجهود المتواضعة لتدوين السنة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
وهذا لا يعني أبداً أن السنة لم يكتب منها شيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد وردت آثار صحيحة تدل على أنه قد وقع كتابة شيء من السنة في العصر النبوي، ولكن هذا التدوين والكتابة كان بصفة خاصة، ولم يكن عاماً بحيث تتداول هذه الكتب بين الناس، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في فتح مكة أن يكتبوا لأبي شاة، وكتب - صلوات الله وسلامه عليه - كتباً إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام، كما ثبت أن بعض الصحابة كانت لهم صحف خاصة يدونون فيها بعض ما سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص التي كان يسميها بـ (الصادقة)، وكانت عند علي رضي الله عنه صحيفة فيها أحكام الدية وفكاك الأسير، كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لبعض أمرائه وعمَّاله كتبًا حدَّد لهم فيها الأنصبة ومقادير الزكاة والجزية والديات، إلى غير ذلك من القضايا المتعددة التي تدل على وقوع الكتابة في عهده عليه الصلاة والسلام .. إذاً فقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تدون السنة تدويناً كاملاً كما دون القرآن.
وكل ما جرى هو أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خاف أن يختلط ما أوحى الله به إليه من قرآن بما أوحى به إليه من السنة، كان النهي الذي جاء ذكره في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) .. ولما حصل التمييز بين القرآن والسنة وانتفى ما كان يمنع من كتابة الحديث، وزال الخوف وأمن اللبس والاختلاط بين القرآن والأحاديث، عند ذلك أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه بالكتابة، فقد وردت أحاديث تدل على إباحة الكتابة لبعضهم، فمن ذلك: ما رواه البخاري ومسلم أن علياً رضي الله عنه لما سأله أبو جحيفة: هل عندكم شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن؟ قَالَ لا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟، قَالَ: (الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ) .. ومما يدل على إباحة الكتابة ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مني حديثا، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب).
تحرج الخلفاء الراشدين من تدوين السنة وسبب ذلك:
جاء عهد الخلفاء الراشدين، فلم يدونوا الحديث في الصحف كراهة أن يتخذها الناس مصاحف يضاهون بها صحف القرآن، وأحجموا عن كتابة السنة وتدوينها مدة خلافتهم، حتى إن عمر رضي الله عنه فكر في أول الأمر في جمع السنة فاستفتى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: "إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني - والله - لا ألبِّس كتاب الله بشيء أبداً".
وكان هذا الرأي من عمر متناسباً مع حالة الناس في ذلك الوقت، فإن عهدهم بالقرآن لا يزال

الصفحة 22