كتاب شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي ومعه حاشية السعد والجرجاني (اسم الجزء: 3)

قال: (مسألة: المختار أنه عليه السلام كان متعبدًا بالاجتهاد لنا مثل قوله {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذنتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣]، "ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى" ولا يستقيم ذلك فيما كان بالوحى واستدل أبو يوسف بقوله: {لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: ١٠٥]، وقرره الفارسى واستدل بأنه أكثر ثوابًا للمشقة فيه فكان أولى وأجيب بأن سقوطه لدرجة أعلى)
أقول: النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- هل كان متعبدًا بالاجتهاد فيما لا نص فيه قد اختلف فى جوازه وفى وقوعه، المختار وقوعه، لنا قوله تعالى: {عَفَا اللُّهُ عَنكَ لِمَ أذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: ٤٣]، عاتبه على حكمه، ومثل ذلك لا وركون فيما علم بالوحى وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى" (*) وسوق الهدى حكم شرعى أى لو علمت أولًا ما علمت آخرًا لما فعلت ومثل ذلك لا يستقيم إلا فيما عمل بالرأى، واستدل اْبو يوسف رحمة اللَّه عليه بقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: ١٠٥]، وقرره الفارسى أى بين وجه دلالته، فقال: الرؤية تقال للإبصار مثل: رأيت زيدًا، وللعلم مثل: رأيت زيدًا قائمًا، وللرأى مثل: أرى فيه الحل أو الحرمة وأراك لا تستقيم لرؤية العين لاستحالتها فى الأحكام ولا للعلم لوجوب ذكر المفعول الثالث له لذكر الثانى إذ المعنى بما أراكه اللَّه ليتم الصلة فيتعين أن يكون المراد الرأى أى بما جعله اللَّه رأيًا لك وأجيب بأنه بمعنى الإعلام وما مصدرية فلا ضمير وحذف المفعولان معًا وأنه جائز وقد استدل بأن الاجتهاد أكثر ثوابًا لما فيه من المشقة وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أفضل العبادات أحمزها" (**) أى أشقها، وقال: "ثوابك على قدر نصبك" (***) والأكثر ثوابًا أولى وعلو درجته -صلى اللَّه عليه وسلم- يقتضى أن لا يسقط عنه تحصيلًا لمزيد الثواب ولئلا يكون غيره مختصًا بفضيلة ليست له.
الجواب: لا نسلم أن علو درجته يقتضى عدم سقوطه بل قد يقتضى سقوطه إذ الشئ قد يسقط لدرجة أعلى ولا يكون فيه نقص لأجره ولا يكون غيره مختصًا بفضيلة ليست له، وذلك كمن يحرم ثواب الشهادة لكونه حاكمًا وثواب التقليد لكونه مجتهدًا وثواب القضاء لكونه إمامًا.
---------------
(*) أخرجه البخارى (٦/ ٢٦٤٢) (ح ٦٨٠٢)، ومسلم (٢/ ٨٧٩) (ح ١٢١١).
(**) قال الهروى: قال الزركشى: لا يعرف، وقال ابن القيم فى شرح منازل السائرين: لا أصل له. انظر: المصنوع (١/ ٥٧)، كشف الخفاء (١/ ١٧٥).
(***) لم أجده.

الصفحة 584