كتاب سراج الملوك

قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا!
قال شيخنا رحمه الله: قرئ على القاضي أبي الوليد الباجي وأنا أسمع لبعض الشعراء:
ويحك يا أسماء ما شاني أضللني والله ما ساني!
الموت حق فاعلمي نازل فبشري لحدي وأكفاني
قد كنت ذا مال فلا والذي أعطاني العيش وأغناني
ما قرت العين به ساعة إلا تذكرت فأشجاني
علمي بأني صائر للبلى وفاقد أهلي وجيراني
وتارك مالي على حاله نهباً لشيطان بن شيطان
لامرأة ابني أو لزوج ابنتي يا لك من غي وخسران!
يسعد في مالي وأشقى به قوم ذوو غل وشنان
إن أحسنوا كان لهم أجره وخف من ذلك ميزاني
وممن استبصر من أبناء الملوك، فرأى عيب الدنيا وفناءها وتقضيها وزوالها، إبراهيم بن أدهم بن منصور من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ، ولما زهد في الدنيا زهد عن ثمانين سريراً. قال إبراهيم بن بشار: سألت إبراهيم بن أدهم كيف كان بدء أمرك حتى صرت إلى هذا؟ قال: غير هذا أولى بك! قلت: يرحمك الله لعل الله ينفعني به يوماً ما. ثم سألته ثانية فقال: ويحك اشتغل بالله سبحانه! ثم سألته ثالثة فقلت: إن رأيت يرحمك الله أن تخبرني به لعل الله أن ينفعني به. فقال: كان أبي من ملوك خراسان وكان من المياسير وكان قد حبب إلي الصيد، فبينما أنا راكب فرساً ومعي كلبي، فأثرت أرنباً أو ثعلباً، فحركت فرسي فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا بهذا أمرت! فوقفت أنظر يمنة ويسرة فلم أر أحداً فقلت في نفسي: لعن الله الشيطان، ثم حركت فرسي فسمعت نداء أقوى من الأول: يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا بهذا أمرت! فوقفت مقشعراً وجعلت أنظر يمنة ويسرة فلم أر شيئاً فقلت: لعن الله إبليس! ثم حركت فرسي فسمعت نداء من قربوس سرجي: يا إبراهيم ليس لهذا خلقت ولا بهذا أمرت! فوقفت وقلت: هيهات قد جاءني النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربي ما عصمني بعد يومي هذا! فتوجهت إلى أهلي وخلفت فرسي، وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت جبته وكساءه وألقيت إليه ثيابي، فلم تزل أرض تقلني وأرض تضعني، حتى صرت إلى العراق وعملت بها أياماً فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت المشايخ عن الحلال، فقال: عليك بالشام. قال: فانصرفت إلى الشام إلى مدينة يقال لها المنصورية وهي المصيصة، فعملت بها أياماً فلم يصف لي منها شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال: إن أردت الحلال فعليك بطرطوس، فإن العمل بها والمباحات كثير. قال: فبينما أنا قاعد على باب البحر إذ جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستاناً، فتوجهت معه فمكثت في البستان أياماً كثيرة، فإذا بخادم قد أظلل ومعه أصحاب له، ولو علمت أن البستان لخادم ما نظرته، فقعد في مجلسه ثم قال: يا ناظورنا.
فأجبته، قال: اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه. فأتيته برمان فأخذ الخادم رمانة فكسرها فوجدها حامضة، فقال: يا ناظورنا أنت منذ كذا وكذا في بستاننا تأكل من فاكهتنا ورماننا لا تعرف الحلو من الحامض؟ قلت: والله ما أكلت من فاكهتكم شيئاً وما أعرف الحلو من الحامض! قال: فغمز الخادم أصحابه

الصفحة 11