كتاب سراج الملوك

غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20)
والكفار هاهنا: الزراع، فكما أن الزرع يكون في أول نباته خضراً ناعماً اهتزت به الأرض بعد يبسها، فجاءت في العيون كأملح ما يكون، ثم يهيج فتراه مصفراً أي يكبر ويستوي فيجف ويحترق وينتكس أعلاه ويستغل سنبله، ثم يدرس فيكون حطاماً أي تبناً فيكون متكسراً متقطعاً. وهذا مثل ضربه الله تعالى لبني آدم إذ كانوا أطفالاً أول الولادة وفي حال الشبوبية كأحسن مرئي، يعجبون الآباء ويفتنون ذوي الأحلام والنهى، ثم يكبرون فيصيرون شيوخاً منكسة رؤوسهم مقوسة ظهورهم، قد ذهب حسنهم ونعومتهم وفني شبابهم وجمالهم، وذوت غضارتهم ونضارتهم، واستولى عليهم الهرم واليبس، ثم يموتون فيصيرون حطاماً في القبور كالتبن في الجرين. هذا بعدما وصفها بخمس صفات مذمومة: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر.
وكان الصدر الأول يسمي الدنيا خنزيراً، ولو وجدوا لها اسماً أقبح منه لسموها به. وكانوا يسمونها أم دفر، والدفر: النتن. وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: بلغني أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل ركب يوماً في زي عظيم، فتشرف له الناس ينظرون إليه أفواجاً، حتى مر برجل يعمل شيئاً مكباً عليه لا يلتفت إليه ولا يرفع رأسه، فوقف الملك عليه وقال: كل الناس ينظرون إلي إلا أنت! فقال الرجل: إني رأيت ملكاً مثلك وكان على هذه القرية، فمات هو ومسكين فدفن إلى جانبه في يوم واحد، وكنا نعرفهما في الدنيا بأجسادهما ثم كنا نعرفهما بقبريهما، ثم نسفت الريح قبريهما وكشفت عنهما، فاختلطت عظامهما فلم أعرف الملك من المسكين، فلذلك أقبلت على عملي وتركت النظر إليك. وقد قيل في المعنى:
وحقك لو كشفت الترب عنهم لما عرف الغني من الفقير
ولا من كان يلبس ثوب شعر ولا البدن المنعم بالحرير
وروى أن داود عليه السلام، بينما هو يسيح في الجبال إذ أوفى على غار، فنظر إليه فإذا فيه رجل عظيم من بني آدم، وإذا عند رأسه حجر مكتوب بكتاب محفور فيه: أنا دوسوم الملك ملكت ألف عام، وفتحت ألف مدينة، وهزمت ألف جيش، وافترعت ألف بكر من بنات الملوك، ثم صرت إلى ما ترى فصار التراب فراشي والحجارة وسادي، فمن رآني فلا تغرنه الدنيا كما غرتني. وقال وهب بن منبه رضي الله عنه: خرج عيسى عليه السلام يوماً مع جماعة من أصحابه، فلما ارتفع النهار، مروا بزرع قد أمكن من الفرك فقالوا: يا رسول الله إنا جياع. فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم، فأذن لهم فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع وهو يقول: زرعي وأرضي ورثته عن آبائي، بإذن من تأكلون يا هؤلاء؟ قال: فدعا عيسى ربه فبعث الله تعالى جميع من ملك تلك الأرض من لدن آدم إلى ساعته، فإذا عند كل سنبلة أو ما شاء الله رجل أو امرأة كل ينادي زرعي وأرضي ورثته عن آبائي! ففزع الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى وهو لا يعرفه، فلما عرفه قال: معذرة إليك يا رسول الله! إني لم أعرفك، زرعي ومالي لك حلال! فبكى عيسى عليه السلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم قد ورثوا الأرض وعمروها، ثم ارتحلوا عنها وأنت مرتحل عنها وبهم لاحق، ليس لك أرض ولا مال! وقال أبو العتاهية:
وعظتك أجداث صمت ونعتك أزمنة خفت
وتكلمت عن أوجه تبلى وعن صور سكت
وأرتك قبرك في القبو ر وأنت حي لم تمت
يا شامتاً بمنيتي إن المنية لم تمت
ولربما انقلب الزما ن فحل بالقوم الشمت

الصفحة 13