كتاب سراج الملوك

فدونك وهذا الطعام. فنظر في وجهي وتبسم وقال: يا عبد الله إنما هي ثورة جوع فما أبالي بأي شيء رددتها.
فرجعت عنه فقال لي رجل إلى جنبي: أتعرفه؟ قلت: لا. قال:
إنه من بني هاشم من ولد العباس بن عبد المطلب، كان يسكن البصرة فتاب، فخرج منها فتفقد فما عرف له أثر ولا وقف له على خبر. فأعجبني قوله ثم تجمعت معه وآنسته وقلت له: هل لك أن تعادلني فإن معي فضلاً من راحلتي؟ فجزاني خيراً وقال: لو أردت هذا المكان لي معداً. ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس بن عبد المطلب كنت أسكن البصرة، وكنت ذا كبر شديد وبذخ، وإني أمرت خادمة لي أن تحشو لي فراشاً ومخدة من حرير بورد نثير، ففعلت. وإني لنائم وإذا بقمع وردة قد أغفلته الخادمة، فقمت إليها وأوجعتها ضرباً ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في المنام في صورة فظيعة فهزني وقال: أفق من غشيتك أبصر من حيرتك، ثم أنشأ يقول هذه الأبيات:
يا خد إنك إن توسد ليناً

وسدت بعد الموت صم الجندل
فاعمل لنفسك صالحاً تسعد به

فلتندمن غداً إذا لم تفعل!

فانتبهت فزعاً وخرجت من ساعتي هارباً إلى ربي.
وقال عبد الواحد بن زيد: ذكر لي أن في خرائب الأيلة جارية مجنونة تنطق بالحكمة، فلم أزل أطلبها حتى وجدتها في خربة جالسة على حجر وعليها جبة صوف وهي محلوقة الرأس، فلما نظرت إلي قالت من غير أن أكلمها: مرحباً بك يا عبد الواحد! فقلت لها: رحب الله بك! وعجبت من معرفتها بي ولم ترني قبل ذلك فقالت: ما الذي جاء بك ههنا؟ قلت: جئت لتعظيني. فقالت: واعجباً لواعظ يوعظ! ثم قالت: يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفاية ثم مال إلى الدنيا، سلبه الله حلاوة الطاعة فيظل حيران والهاً، فإن كان له نصيب عند الله عاتبه وحياً في سره، فقال: عبدي أردت أن أرفع قدرك عند ملائكتي وحملة عرشي، وأجعلك دليلاً لأوليائي وأهل طاعتي في أرضي، فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتني، فأورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس والذل بعد العز والفقر بعد الغنى، عبدي ارجع إلى ما كنت عليه أرجع لك ما كنت تعرفه من نفسك. قال: ثم تركتني وولت عني وانصرفت عنها وفي قلبي حسرة منها. وأنشدوا:
إنك في دار لها مدة

يقبل فيها عمل العامل

أما ترى الموت محيطاً بها

يقطع فيها أمل الآمل؟

تعجل الذنب بما تشتهي

وتأمل التوبة من قابل

والموت يأتي بعد ذا غفلةٍ

ماذا يفعل الحازم العاقل؟

ولما نزل سعد بن أبي وقاص الحيرة قيل له: ههنا عجوز من بنات الملوك يقال لها الحرقة بنت النعمان بن المنذر، وكانت من أجل عقائل العرب، وكانت إذا خرجت إلى بيعتها نشرت عليها ألف قطيفة خز وديباج، ومعها ألف وصيف ووصيفة، فأرسل إليها سعد فجاءت كالشن البالي فقالت: يا سعد كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله مدة من المدد، حتى صاح بنا صائح الدهر فشتت ملأنا، والدهر ذو نوائب وصروف، فلو رأيتنا في أيامنا لأرعدت فرائصك فرقاً منا! فقال لها سعد: ما أنعم ما تنعمتم به؟ قالت: سعة الدنيا علينا وكثرة الأصوات إذا دعونا، ثم أنشأت تقول:

الصفحة 16