كتاب سراج الملوك

وروي أن رجلين تنازعا في أرض فأنطق الله لبنة من جدار تلك الأرض فقالت: إني كنت ملكاً من ملوك ملكت الدنيا ألف سنة ثم مت وصرت رميماً ألف سنة، فأخذني خزاف واتخذني خزفاً، ثم أخذني وضربني لبناً وأنا في هذا الجدار منذ كذا وكذا سنة، فلم تتنازعا في هذه الأرض؟ ولبعضهم:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا

لبسن البلى مما لبسن اللياليا

إذا ما تقاضى المرء يوماً وليلة

تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا

حنتك الليالي بعدما كنت مدة

سوي العصا لو كن يبقين باقيا
ومن أعجب ما روي في الإسرائيليات أن ابنة من بنات الملوك تزهدت في الدنيا، وتابت وخرجت من ملكها فتفقدت فلم يسمع لها خبر ولا علم لها أثر، وكان هناك دير للمتعبدين فلحق بهم شاب يتعبد، فأبصروا منه الاجتهاد والجد في العمل وملازمة الأوراد ومواصلة الأعمال، مما فاق به جميع من في الدير، وأقام على ذلك ما شاء الله إلى أن انقضت أيامه ووافاه حمامه، وقضى الفتى نحبه فحزن عليه أهل الدير من الزهاد والعباد والمنقطعين وأذروا عليه الدموع، ثم أخذوا في غسله فإذا هو امرأة ففحصوا عن أمره فإذا هي بنت الملك، فزادهم ذلك إعجاباً به وتعظيماً، وتشاوروا في أمره ماذا يحدثون له من الكرامة، ثم أجمع رأيهم على أن لا يدفنوه تحت الثرى، وأن يحملوه فوق أكفهم فغسلوه وكفنوه وجهزوه وصلوا عليه، ثم أقبلوا يحملونه على الأكف والسواعد كلما ضجر واحد جاء واحد يحمل مع من يحمل، وكل من انقطع في الدير لعبادة ربه جعل يحمل معهم إلى أن بلي وتقطعت أوصاله مع طول الزمان، فدفن حينئذ رحمه الله.
وكان في بلاد الروم مما يلي أرض الأندلس رجل نصراني قد بلغ من التخلي عن الدنيا مبلغاً عظيماً، واعتزل الخلق ولزم قلل الجبال والسياحة في الأرض إلى الغاية القصوى، فورد على المستعين بن هود في بعض الأمر فأكرمه ابن هود ثم أخذ بيده وجعل يعرض عليه ذخائر ملكه وخزائن أمواله، وما حوته من البيضاء والصفراء وأحجار الياقوت والجواهر وأمثالها، ونفائس الأعلاق والجواري والحشم والأجناد والكراع والسلاح، فأقام على ذلك أياماً، فلما انقضى قال له: كيف رأيت ملكي؟ قال: رأيت ملكك ولكنه تعوزك فيه خصلة إن أنت قدرت عليها تم انتظام ملكك، وإن لم تقدر عليها فهذا الملك شبه لا شيء. قال: وما هي الخصلة؟ قال: تعمد فتصنع غطاءاً عظيماً حصيناً قوياً، وتكون مساحته قدر البلد ثم تركبه على البلد حتى لا يجد ملك الموت مدخلاً إليك. فقال المستعين: سبحان الله، أويقدر البشر على مثل هذا؟ فقال العلج: يا هذا أفتفتخر بأمر تتركه غداً؟ ومثال من يفتخر بما يفنى كمن يفتخر بما يراه في النوم.
وروي أن ملكاً من الملوك بنى قصراً وقال: انظروا من عاب منه شيئاً فأصلحوه وأعطوه درهمين، فأتاه رجل فقال:
إن في هذا القصر عيبين. قال: وما هما؟ قال: يموت الملك ويخرب القصر! قال: صدقت! ثم أقبل على نفسه وترك الدنيا.
ومن عجائب أخبار الخضر عليه السلام، قال: سئل الخضر عليه السلام عن أعجب شيء رأيته في الدنيا في طول سياحتك وكثرة خلواتك وقطعك القفار والفلوات؟ فقال: أعجب ما رأيت أني مررت على مدينة لم أر على وجه الأرض أحسن منها، فسألت بعضهم: متى بنيت هذه المدينة؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا وأجدادنا متى بنيت وما زالت كذلك من عهد الطوفان. ثم غبت عنها نحواً من خمسمائة عام وعبرت عليها بعد ذلك فإذا هي خاوية على عروشها، لم أر أحداً أسأله عنها، وإذا رعاة غنم فدنوت منهم فقلت: أين المدينة التي كانت ههنا؟ فقالوا: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أن ههنا قط كانت مدينة.
فغبت عنها نحواً من خمسمائة عام ثم انتهيت إليها، فإذا موضع تلك المدينة بحر وإذا غواصون

الصفحة 23