كتاب سراج الملوك

النار بخير، وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية. يا بني من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل السيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن كشف حجاب أخيه انكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن جالس العلماء وقر، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار.
يا بني الأدب خير ميراث وحسن الخلق خير قرين. يا بني العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله تعالى، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء. يا بني زينة الفقر الصبر وزينة الغنى الشكر. يا بني لا شرف أعلى من الإسلام ولا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية. الحرص مفتاح التعب ومطية النصب، والتدبير قبل العمل يؤمنك الندم، بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد! طوبى لمن أخلص لله علمه وعمله وحبه وبغضه. وأخذه وتركه وكلامه وصمته وقوله وفعله! وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما طعن دعا بلبن فشرب منه فخرج من طعنته فقال: الله أكبر. فجعل جلساؤه يثنون عليه فقال: وددت أني أخرج منها كفافاً كما دخلت فيها، لو أن لي اليوم ما طلعت عليه الشمس وغربت لافتديت به من هول المطلع! قال ابن عمر: ولما احتضر عمر غشي عليه فأخذت رأسه فوضعته في حجري فقال: ضع رأسي بالأرض لعل الله يرحمني. فمسح خديه من التراب وقال: ويل لعمر وويل لأمه إن لم يغفر له! فقلت:
وهل حجري والأرض إلا سواء يا أبتاه؟ فقال: ضع رأسي بالأرض لا أم لك كما آمرك! فإذا قضيت فأسرعوا بي إلى حفرتي فإنما هو خير تقدمون إليه أو شر تضعونه عن رقابكم! ثم بكى فقيل له: وما يبكيك؟ قال: خبر السماء لا أدري إلى جنة ينطلق بي أو إلى نار.
ولما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال: اللهم إنك أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت وأنعمت علي فأفضلت، فإن عفوت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت، ألا إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قضى نحبه. ولما حضرت هشام بن عبد الملك الوفاة نظر إلى أهله يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له! ودخل على المأمون في مرضه الذي مات فيه، فإذا هو قد أمر أن يفرش له جل الدابة ويبسط عليه الرماد، وهو راقد عليه يتضرع ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من يزول ملكه. وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مر على طائر واقع على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تطير وتقع على الشجر وتأكل من الثمر وليس عليك حساب ولا عقاب! يا ليتني كنت مثلك والله لوددت أني شجرة إلى جنب الطريق فمر علي بعير، فأخذني فلاكني ثم ازدردني ثم أخرجني بعراً ولم أك بشراً! وقال عاصم بن عبيد الله: أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تبنة من الأرض فقال: يا ليتني مثل هذه التبنة! يا ليتني لم تلدني أمي! يا ليتني كنت نسياً منسيا! وقال ابن مسعود: وددت أني طائر في منكبي ريش!

الصفحة 28