كتاب سراج الملوك

يا أمير المؤمنين ناشدتك الله أن تقدم على جنة عرضها السماوات والأرض، وقد دعيت إليها وليس لك فيها نصيب. يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك وتحاسب وحدك، وإنك لا تقدم إلا على حالة نادم مشغول، ولا تخلف إلا مفتوناً مغروراً، وإنك وإيانا لفي دار سفر وجيران ظعن.
ولما حج سليمان بن عبد الملك استحضر أبا حازم فقال له: تكلم يا أبا حازم. فقال: بم أتكلم؟ فقال: في الخروج من هذا الأمر. قال: يسيران أنت فعلته. قال: وما ذاك؟ قال: لا تأخذ الأشياء إلا من حلها ولا تضعها إلا في أهلها. قال: ومن يقوى على ذاك؟ قال: من قلده الله من الأمر ما قلدك. قال: عظني يا أبا حازم. قال: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من قبلك، وهو خارج عنك بمثل ما صار إليك. ثم قال: يا أمير المؤمنين نزه ربك في عظمته عن أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. يا أمير المؤمنين إنما أنت سوق فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر لنفسك أيهما شئت.
قال: فما لك لا تأتينا؟ قال: وما أصنع بإتيانك؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أحزنتني، وليس عندي ما أخافك عليه ولا عندك ما أرجوك له. قال: فارفع إلي حوائجك. قال: قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها، فما أعطاني منها قبلت، وما منعني منها رضيت، يقول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف: 32) . فمن ذا الذي يستطيع أن ينقص من كثير ما قسم الله، أو يزيد في قليل ما قسم الله؟ قال: فبكى سليمان بكاء شديداً فقال رجل من جلسائه: أسأت إلى أمير المؤمنين! فقال له أبو حازم: اسكت! فإن الله تعالى أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. ثم خرج من عنده فلما وصل إلى منزله بعث إليه بمال فرده وقال للرسول: قل له يا أمير المؤمنين، والله ما أرضاه لك فكيف أرضاه لنفسي؟ وقال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد، فبينما أنا نائم ليلة إذ سمعت قرع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أجب أمير المؤمنين! فخرجت مسرعاً فإذا هو أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء لا يخرجه إلا عالم، انظر لي رجلاً أسأله. فقلت له: ههنا سفيان بن عيينة. قال امض بنا إليه. فأتيناه فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين! فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: خذ لما جئنا له. فحادثه ساعة ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم. فقال: يا عباس اقض دينه، ثم انصرفنا. فقال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، فانظر لي رجلاً أسأله.
ههنا عبد الرزاق بن همام. فقال امض بنا إليه نسأله. فأتيناه فقرعنا عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين! فخرج يصلي في غرفته يتلو آية من كتاب الله تعالى وهو يرددها، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين! فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أوما عليك طاعته؟ أوليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي فقال: أواه من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فقال:
خذ لما جئنا له يرحمك

الصفحة 30