كتاب الشافي في شرح مسند الشافعي (اسم الجزء: 4)

إذا أتيته تطلب معروفه، وعراني فأعريته كما تقول: طلب إلى فأطلبته، وسألني فأسألته.
والقول الثاني: أنها إنما سميت عريَّة لأن الرجل يعريها من جملة نخله، أي يستثنيها لا يبيعها مع النخل، فربما أكلها وربما وهبها لغيره أو فعل بها ما يشاء.
قال: والعرايا ما كانت من هذه الوجوه فإنها مستثناة من جملة النهي عن المزابنة، ألا تراه يقول: رخص في بيع العرايا؛ والرخصة إنما تقع بعد الحظر، وورود الخصوص على العموم لا ينكر في أصول الدين، وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن الجمع بينهما، وترتيب أحدهما على الآخر ألا يحملا على المنافاة بل يستعمل كل منهما في موضعه، وذلك أنه إنما جاء النهي عن المزابنة وهو بيع الرطب بالتمر على رءوس النخل، واستثنى منها العرايا للحاجة التي ذكرناها.
وبه قال الأئمة والفقهاء، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي ومالك وأحمد، وإسحاق وأبي عبيد، وامتنع أصحاب الرأي من القول به، فسروا العرية تفسيرًا لا يليق بمعنى الحديث؛ قالوا: العرية أن يعري الرجلُ الرجلَ من حائطه نخلاتٍ ثم يبدو له فيها فيبطلها ويعطيه مكانها تمرًا.
فجعلوا العرية هبة، والحديث إنما جاء بالرخصة في البيع، فإنه قد صرح به في حديث زيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر بالتمر: ورخص في العرية أن تباع بخرصها تمرًا فيأكلها أهلها رطبًا" فهذا يبين لنا أنه قد استثنى العرية من جملة ما اقتضاه تحريم النهي عن بيع الثمر بالتمر والظاهر أن المستثنى إنما هو من جنس المستثنى منه، والرخصة إنما تلغى المحظور، والمحظور ها هنا البيع المنهي عنه، ولو كان الأمر على ما تأوَّلوه من الهبة؛ ما كان للخرص ولا للرخصة معنى، ولا وجه لبيع ملكه من نفسه؛ لأن الهبة تتعلق صحتها بالإقباض، والإقباض لم يقع، فلم يَزُل الملك.

الصفحة 19