كتاب صور وخواطر

وكانت سحابة واطية قريبة حتى كان الجراد يتساقط على الأرض! جراد كَنَسَ الحقول وقضى على كل شيء مَرَّ عليه.
كانت أيام بلاء وشقاء، ولكنا كنا نهتف في المدرسة كل صباح بالتركية "باديشاهم جوق يشا"، أي أطال الله عمر السلطان. كانت أناشيدنا باللغة التركية، وكان من المدرسين من يدرّسنا باللغة التركية، حتى النحو، القواعد العربية كنا نتعلمها باللغة التركية، فإذا أراد المدرّس أن يسألنا مثلاً "ما هو الفاعل" قال: فاعل نِدِرْ؟ وكان اسم جمال باشا يُدخل الرعب إلى قلوبنا نحن الصغار، حتى إن معلماً في المدرسة أشاع أنه نسيب جمال باشا، فكنا نموت من الخوف إذا دخل علينا.
هذا كل ما كنا نعرف عن الحرب. ومن أين نعرف أكثر منه وما كان في البلد، بل لم يكن في الدنيا كلها إذاعات، وما كان عندنا جرائد، أو ما كنا نعرف -نحن التلاميذ- وما كان يعرف جمهور الناس ما الجرائد، وكانت دمشق في عزلة، كانت منطوية على نفسها.
لم يكن في الألف من أهلها واحدٌ يستطيع أن يعدّ أسماء خمس دول أوربية ولم نكن نعرف شيئاً من مخترعاتها. لمّا جاءتنا أول سيارة (سنة 1915 أو 1916، لم أعد أذكر)، سيارة فورد من ذوات الرفارف والدواليب الدقيقة والسقف المصنوع من القماش، خرج الناس كلهم ليروها، ليروا هذه الأعجوبة: عربة تمشي بلا خيل تجرّها! فلما وصلت فزعوا منها وابتعدوا عنها! لم يكن في دمشق إلا عشرون داراً فيها الكهرباء. لم يكن فيها شارع واحد، وأول شارع فيها هو الذي فتحه جمال باشا سنة 1916،

الصفحة 342