كتاب تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة

ولم يذكر الثلث الثالث، ثم يبقى على هذا الوجه أن بقية الآيات ترك ذكرها اكتفاءً بهاتين الآيتين العظيمتين أو بما يتضمنه قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 97]، من آيات كثيرة منها تيسير الأرزاق ولذلك جمع إبراهيم في دعوته للبلد الحرام ملاك الخيرات؛ إذ قال فيما حكى الله عنه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، ويجوز أن تكون الآية الثالثة هي مضمون قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، الخ، لما يقتضيه الحج من الخيرات لأهل مكة.
وقيل: إن معنى هذا الخبر الأمر أي أمَّنُوا من دخله؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن»، أي فأمَّنوه وهو لا يفيد المقصود من التشريف؛ ولكنه يدل على تشريف مقرر قديم والحمل على الأول أولى، ولا يرد عليه أنه قد انتهكت حرمة أمنه في بعض الأزمنة مثل ما فعله القرامطة؛ لأن الآية هي أمنة فيما مضى، يسَّره الله لهم ليكون ملجأ قائمًا مقام العدل، ثم أتى الله بعد ذلك بالإسلام، ولأن القضايا النادرة لا تقدح في الشرف الأثيل، على أن أمن من دخل البيت لا يقتضي أمن كل من كان بالمسجد الحرام أو ببلد مكة.
واعلم أن مغزى هذه الآية مع سابقتها هو التنويه بملة الإسلام وبيان أنها هي الحنيفية التي فضلها الله تعالى والتي بعث إبراهيم بأصولها، أو أنها دعوة إبراهيم فيما حكى الله عنه من قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129]، فكانت ملة الإسلام هي كمال الحنيفية وتفصيلها، وقد نصب الله على ذلك آية خفية تظهر للمهتدي وهي أن إبراهيم أظهر الحنيفية في مكة وأقام لذلك علمًا وهو المسجد الحرام، وأقام ابنه إسماعيل داعيًا لها هنالك، ثم لم يبعث الله رسولًا بعد إبراهيم وابنه في ذلك البلد فتطوحت الشرائع في بلاد الله حتى جاء الدين الذي أراده الله لإظهار الشريعة الجامعة، وفي بقاء هذا الأثر المبارك من آثار إبراهيم واندثار غيره معجزة خفية وإشارة إلهية إلى أن جميع الشرائع التي تفرعت عن ملة إبراهيم من شريعة موسى وغيره شرائع زائلة، وأن الشريعة الخالدة هي الشريعة التي تظهر مرة أخرى من جانب هذا الأثر، فبعث الله من مكة رسولًا يلم بدعوته أشتات الأمم، ويزجي بهم إلى الانضواء تحت ذلك العلم، وبذلك حق مراد الله تعالى وتم.

الصفحة 32