كتاب توضيح الأحكام من بلوغ المرام (اسم الجزء: 6)

وبالتأمُّل: فإن التعبير بـ"الأم" يقتضي أن المرضعة لا تحرم، إلاَّ إذا أرضعت مقدارًا تستحق به الاتصاف بالأمومة، ولا تتصف بذلك إلاَّ مَن ولدت الولد، أو مَن صار جزءُ بدنها -وهو اللبن- جزءًا لبدن الولد، وهذا لا يحصل بمجرد الرَّضاعة القليلة، بل لابد له من مقدار كبير، يصير به اللبن جزءًا للبدن، وذلك غير معلوم، فوجب الرجوع إلى تقدير الشارع، والأحاديث تدور حول كون الرَّضاعة من المجاعة، وكونها فاتقة للأمعاء، ومنشزة للعظم، ومنبتة للحم، وكونها في الحولين، وعدم اعتبار رضاع الكبير، كل ذلك لأجل هذه العلة.
وعلى هذا: فإنه لا تعارض بين الآية والحديث فقد جاء الحديث لبيان المقدار، والقرآن الكريم سمّى المرضعة أُمًّا فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] والأُمومة لا تكون إلاَّ بالمقدار الذي جاء في الحديث، فظهر أن ما ذهب إليه الإمامان: الشافعي وأحمد، هو الصحيح، والله أعلم.
* فوائد.
الأولى: ذهب الإمام الشافعي، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد، واختيار ابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن السعدي وغيرهم: إلى أن الرضعة لا تحتسب رضعة؛ حتى تكون وجبة للطفل تامَّة، كالأكلة من الأكلات، والشّربة من الشربات.
أما قطع الطفل الثدي لعارض كالتنفس، أو نقله من ثدي لآخر، فهذه لا يُعتبر رضعة، وإن كان هو المشهور من المذهب الحنبلي.
الثانية: قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: "أخذ الدم من الرجل للمرأة، وحقنها به لا ينشر به حرمة، ولو كَثُر، كما تنتشر الحرمة بالرَّضاع، وكذا الحكم لو حقن الرجل بدم المرأة، فيجوز لكل منهما أن يتزوج بالآخر".
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: نقل الدم من رجل إلى امرأة، أو بالعكس لا يسمى رضاعًا، لا لغةً، ولا عرفًا، ولا شرعًا، ولا تثبت له أحكام الرضاع".
الثالثة: أما المحرمات من الرَّضاع: فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

الصفحة 16