كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)

بِقَضِيَّةٍ، يَقْضِي بِهَا مَن يَقرَأ القُرآنَ وَمَن لَا يَقرَأ الْقُرآنَ ... " (١).
والكلالةُ في أولِ سورة النِّساءِ هي مَنْ لا ولَدَ له وإن نزَلَ، ولا والِدَ له وإن عَلَا، وأمَّا الكلالة في هذه الآية، فقد اختُلِفَ فيها اختلافًا عريضًا، وقد ثبتَ عنه في "الصحيحَينِ"؛ أنَّه قال: ثَلَاث أيُّهَا النَّاسُ، وَدِدتُ أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عَهِدَ إِلَينَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيهِ: الجَدُّ، وَالكَلَالَةُ، وَأَبوَابٌ مِن أَبْوَابِ الرِّبَا" (٢).
وإنَّما لم يقضِ فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّها آخِرُ الآياتِ نزولًا، ولم يَطُلْ بقاؤُهُ بعدَها كثيرًا، ولم يَقُمْ مُوجِبُ القضاءِ بها في زَمَنِه، وقد روى البخاريُّ ومسلِمٌ عن البَرَاءِ؛ قال: "آخِرُ سُورةٍ نَزَلَت: (بَرَاءَةُ)، وَآخِرُ آيَةِ نَزَلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (٣).
وقد كان السَّلَفُ يَستَشكِلونَها ويَستثقِلُونَ الكلامَ فيها؛ لأنها تتعلَّقُ بالأموالِ والحقوقِ، وهي مبنيَّةٌ على المُشاحَّةِ لا على المُسامَحةِ، والعاقبةُ فيها في الدُّنيا والآخِرَةِ شديدةٌ لِمَن قضى فيها بغيرِ علمٍ وبيِّنةٍ، وقد سأل رجلٌ عُقبةَ عن الكلالةِ؟ فقال: أَلَا تَعْجَبُونَ من هذا؟ ! يَسألُني عنِ الكلالةِ! وما أعضَلَ بأصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ ما أعضَلَت بهِمُ الكَلالةُ (٤).
وقد اجتَهَدَ فيها الصحابةُ؛ حَسْمًا للنِّزاعِ، ورَفْعًا للحَرَجِ، وهم معذورونَ مأجورون؛ لأنَّ بعضَ الأحكامِ التي لا دليلَ فيها صحيحًا صريحًا لو تُرِكَتْ مع قيامِ حاجةِ الناسِ إليها، وقَعَ مِن النِّزاعِ والشِّقاقِ
---------------
(١) أخرجه مسلم (٥٦٧) (١/ ٣٩٦).
(٢) أخرجه البخاري (٥٥٨٨) (٧/ ١٠٦)، ومسلم (٣٠٣٢) (٤/ ٢٣٢٢).
(٣) أخرجه البخاري (٤٦٠٥) (٦/ ٥٠)، ومسلم (١٦١٨) (٣/ ١٢٣٦).
(٤) "تفسير الطبري" (٧/ ٧٢٣).

الصفحة 1068