كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)
وإذا عَمِيَتِ البَصَائِرُ عن الحُجَجِ كانَ حالُها كحالِ البَصَرِ الأَعْمَى عنِ الطَّرِيق، وإذا أخَذَ الإنسانُ العاقل العارِفُ بلُغَةِ القُرآنِ بأمرَيْنِ؛ فَهِمَ منه ما لا يَفْهَمُه غيرُه، وفَتَحَ اللهُ عليه ما لم يَفْتَحْهُ على غيرِه:
الأَمْرُ الأَوَّلُ: حُسنُ القَصْدِ في طَلَبِ الحَقِّ؛ فإِنَّ اللهَ لم يُنزِلْ كتابَه إلَّا شِفاءً لأمراضِ الصُّدورِ وعِلَلِها، ومَن نَظَرَ في القُرآنِ بالهَوَى فسَبَقَ نَظَرَهُ مَرَضُ قَلْبِه: زَاغَ، فيُبَصَّرُ بما يوافِقُ هَوَاه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: ٥]، فهُم زاغُوا وبَيَّتُوا الغَيَّ فزادَهُمْ غَيًّا وزَيْغًا.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: ١٢٧]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: ١٢٤, ١٢٥]، وقال تعالى في هذا المعنَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: ١٠]، فالرِّجْسُ والمَرَضُ والزَّيْغُ موجودٌ فيهم بعِلْمِهم قبْلَ نَظَرِهم في القُرآن، فزادَهُم نَظَرُهم رِجْسَا ومَرَضًا وغَيًّا، واللهُ لا يَقذِفُ في قلبِ الصادقِ غَيًّا إذا نَظَرَ في القُرآن، فهو شفاءٌ لِمَن حَسُنَ قَصْدُه، ولكنْ مَن لا يُوجَدُ الخيرُ في قَلْبِه تُحْرَمُ بصيرَتُه الفَهْمَ؛ {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: ٢٣]، ولأَجْلِ هذا السَّبَبِ يَزِيغُ بعضُ مَن يَقرَأُ القُرآنَ ويَعرِفُ الحديثَ؛ انحَرَفَتْ نِيَّتُه فانحَرَفَ فَهْمُه.
الأَمْرُ الثَّانِي: إدامةُ البَصَرِ وإطالةُ التأَمُّلِ في القُرآن؛ فإنَّ مَعانِيَ
الصفحة 11
2230