كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

القرآنِ وحِكَمَهُ وأدلَّةَ أحكامِهِ لا تُحصِيها عقولٌ ولا تُحيطُ بها فُهُوم، وقد دَعَا اللهُ إلى التَّفَكُّرِ في القُرآنِ وتأَمُّلِ آياتِه وتَدَبُّرِها؛ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: ٢٩]، والتَّدَبُّرُ بابُ القلوبِ، كُلَّمَا اتَّسَعَ الفَتْحُ اتسَعَ الذي يَدْخُلُه مِن المَعَاني؛ ولهذا شَبَّهَ اللهُ تارِكَ التدبُّرِ بمُقْفَلِ القلبِ؛ قال تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: ٢٤]، وإذا كان القلبُ مُقفَلًا فلن ينتفِعَ الإنسانُ بالسمعِ والبَصَر.
وقد كانَ السلَفُ يَحُثُّونَ على تدبُّرِ القرآنِ والتأَنِّي في قراءَتِه لاستخراجِ ما فيه، وخاصَّةً أدلَّةَ الأحكام، ويَظُنُّ بعضُ الناسِ أنَّ أدلَّةَ أحكامِ القُرآنِ والقرائنَ عليها أُحْصِيَتْ ودُوِّنَتْ؛ وهذا غَلَطٌ؛ فالثابِتُ والمُحصَى هي أحكامُ الدِّينِ، فلا جَدِيدَ في الدِّينِ بعدَ انقِطاعِ الوَحْيِ، وإنَّما بَقِيَ مِن وُجوهِ الاستدلالِ مِن الوحي قَدْرٌ لا ينقَطِعُ، وقد قالَ ابنُ مسعودٍ في ذلك: "إِذَا أردتُّمُ العِلْمَ فأَثِيرُوا القُرآنَ؛ فإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ" (١)، و"أَثِيرُوا"؛ يعني: نَقِّرُوا عنه، وتَفَكَّرُوا في معانِيهِ وتفسيرِه.
وقد رُوِيَ عنِ الرَّبِيعِ صاحِبِ الشافعيِّ قولُه: "قَلَّمَا كُنتُ أَدْخُلُ على الشافعيِّ - رحمه الله - إلَّا والمُصْحَفُ بينَ يَدَيْهِ، يَتَتَبَّعُ أحكامَ القُرآنِ" (٢).
وقد كانَ الأئمة يَرَوْنَ مِنَ القُصُورِ الاستِدلالَ بما دُونَ القرآنِ إذا كانَ الدليلُ فيه واضحًا، فأَوَّلُ مَن يستحِقُّ اسمَ أهلِ القرآنِ الوارِدَ في
---------------
(١) رواه ابنُ المبارَكِ في "الزُّهد" (ص ٢٨٠).
(٢) رواه البيهقيُّ في مقدِّمةِ جَمْعِه لكتاب "أحكام القرآن" للشافعي (١/ ٢٠).

الصفحة 12