كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

وغيرُ ذلك مِن الحِكَمِ، التي لو أرادَ الإنسانُ استقصاءَها، لتعذَّر ذلك عليه.
والذي يُستفادُ مِن هذه الآيةِ: استحبابُ النظرِ إلى السماءِ عندَ الدعاءِ في غيرِ الصلاةِ، وهدا مِن السُّنَنِ المهجورةِ، وكان النبيُّ إذا دعا، نظَرَ إلى السماءِ؛ كما هو ظاهرُ الآيةِ في تقلُّبِ وجهِه في السماءِ؛ فقد روى ابنُ جريرٍ؛ مِن حديثِ ابنِ أبي جعفرٍ، عن أبيهِ، عن الربيع؛ في قولِه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}؛ يقولُ: نظَرَك في السماءِ (١).
وقيل: إنَّ النبيَّ إنَّما كان يُكثِرُ مِن تقليبِ بصرِه في السماءِ راجيًا بقلبِهِ تحويلَ القِبْلةِ وإنْ لم ينطِقْ بالدعاءِ، وهذا الفعلُ لو صدَرَ مِن العبدِ جائزٌ، ولكنْ لا دليلَ ظاهرًا على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فعَلَهُ في القِبْلةِ، ورفعُ البصرِ إلي السماءِ تضرُّعًا مع لَهَجِ القلبِ، كرفعِ الأَكُفِّ تضرُّعًا مع لَهَجِ اللسانِ وحضورِ القبِ، ورفعُ البصرِ والأَكُفِّ ولَهَجُ القلبِ واللسانِ بالمناجاةِ: أكملُ أحوالِ الدعاءِ.
وقد جاء في رفعِ بصرِهِ إلى السماءِ أحاديثُ كثيرةٌ عندَ دعائِهِ وغيرِه.
وكان أصحابُهُ يَعْرِفُونَ دعاءَهُ برفعِ بصرِهِ إلي السماءِ؛ ففي "صحيحِ مسلمٍ"، عن المِقْدادِ؛ قال: أقبَلْتُ أنا وصاحبانِ لي، وقد ذهَبَتْ أسماعُنا وأبصارُنا مِن الجَهْدِ، فجَعَلْنا نَعْرِضُ أنفُسَنا على أصحابِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فليس أحدٌ منهم يَقْبَلُنا، فأتَيْنَا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فانطلَقَ بنا إلى أهلِهِ، فإذا ثلاثةُ أَعْنُزٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بَيْنَنَا)، قال: فكنَّا نحتلِبُ فيشْرَبُ كلُّ إنسانٍ منَّا نَصِيبَهُ، ونرفعُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَصِيبَهُ، قال: فيَجِيءُ مِن الليلِ فيُسَلِّمُ تسليمًا لا يُوقِظُ نائمًا، ويُسْمِعُ اليَقْظَانَ، قال: ثُمَّ يأتي المسجِدَ، فيُصلِّي، ثمَّ يأتي شرابَهُ فيشربُ، فأتاني الشيطانُ ذاتَ ليلةٍ وقد
---------------
(١) "تفسير الطبري" (٢/ ٦٥٧).

الصفحة 124