كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

عمرةَ الحُدَيْبِيَةِ، وقال: "حجَّ النبيُّ البيتَ" (١)؛ يعني: قصَدَه متعبِّدًا بعمرةٍ، وبالإجماعِ: أنَّ النبيَّ أراد العمرةَ، ولم يكنِ الحجُّ فُرِضَ ذلك العامَ.
وإنَّما سُمِّيَ الذَّهابُ إلي البيتِ حجًّا؛ لأنَّه يتكرَّرُ كلَّ عامٍ للحجِّ، ودومًا في العمرةِ لمَنْ أراد، والحاجُّ: هو الذي يكرِّرُ الذَّهابَ والمجيءَ إلى شيءٍ يريدُهُ.
قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ:
وَأشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا (٢)
أيْ: يَقْصِدُونَهُ دومًا لسيادتِه ورياستِهِ.
والعُمْرةُ: الزيارةُ.

السعي بين الصفا والمروة في الجاهلية:
وإنَّما قال اللهُ تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}؛ لأنَّ الناسَ في الحاهليَّةِ نصَبُوا صنمَيْنِ على الصَّفَا والمَرْوةِ، ثمَّ دخَلَ مَن دخَلَ الإسلامَ، وكان يطوفُ بينَ الصَّفا والمروةِ مشركًا مِن قبلُ، فوجَدُوا حرَجًا مِن ذلك، لمَّا قَدِمَ بهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في عمرةِ القضاءِ؛ فأنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ؛ نفيًا للحَرَجِ، والترخيصُ بعدَ الحظرِ: لرفعِ الحظرِ وإبطالِهِ، لا للتشريعِ، فمحلُّه دفعُ الحرجِ والإثمِ لا غيرُ.
روى ابنُ جريرٍ، عن داودَ، عن الشَّعْبيِّ؛ أنَّ وَثَنًا كان في الجاهليَّةِ على الصَّفَا يُسمَّى "إِسَافًا"، ووَثَنًا على المروةِ يسمَّى "نائِلةَ"، فكان أهلُ الجاهليَّةِ إذا طافُوا بالبيتِ، مَسَحُوا الوثَنَيْنِ، فلمَّا جاء الإسلامُ، وكُسِرَتِ الأوثانُ، قال المسلِمونَ: إنَّ الصَّفَا والمَرْوةَ إنَّما كان يُطافُ بهما مِن
---------------
(١) أخرجه أحمد في "مسنده" (٥٣٢٢) (٢/ ٦٥).
(٢) ينظر: "تهذيب اللغة" (٣/ ٢٥٠)، و"لسان العرب" (١/ ٤٥٧) , و"تاج العروس" (٣/ ٣٦).

الصفحة 131