كتاب التفسير والبيان لأحكام القرآن (اسم الجزء: 1)

الأَلْبَابِ وأُولُو العِلمِ الذين أَجْمَعَ المسلمونَ على هِدَايَتِهِم ودِرَايَتِهم" (١) , ولا يُقبَلُ الاستِدلالُ إلَّا مِمَّنْ كانَت هذه صِفَتَه.
وقد سُئِلَ أحمدُ عن قولِهِم: "السُّنَّةُ قاضيةٌ على الكِتابِ"؟ فقال: "ما أَجْسُرُ على هذا، ولَكِنِ السُّنَّة تُفَسِّرُ الكتابَ وتُبَيِّنُهُ" (٢).
وكُلَّما كانَ اللَّبِيبُ عارِفًا بالقُرآنِ والسُّنَّةِ، كانَت حاجَتُه إلى الرأيِ أَضْيَقَ، وإنَّما تَوَسَّعَ أهلُ الرأيِ في الدِّينِ برَأْيِهم لقِلَّةِ معرِفَتِهم بالنُّصُوصِ، فاحتاجُوا للرَّأْيِ لسَدِّ مكانِ الحُجَّةِ لإثباتِ الأحكام، والخَبِيرُ العارِفُ بالنُّصوصِ ودلالاتِها لا يَلجَأُ إلى ذلك إلا في أضيَقِ الأحوالِ، كما قال ابنُ تيميَّة: "وقَلَّ أن تُعْوِزَ النُّصوصُ مَن يكونُ خبيرًا بها وبدلالاتِها على الأحكامِ" (٣).
ومعرفةُ السُّنَّةِ تكونُ بالتوسُّعِ في جَمْعِ أحاديثِ الأبوابِ، ومعرفةِ مواضِعِها ومنازِلِها في الاستِدلالِ، والمُحكَمِ والمُتَشابِهِ، والناسِخِ والمنسوخِ، والعامِّ والخَاصِّ، والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ، والقَطْعِيِّ والظَّنِّيِّ دلالةً وثبوتًا، ومعرفةِ عددِ أحاديثِ البابِ ومقارَنَتِها بما يشابِهُها مِن الأبوابِ، وسببِ زيادةِ هذا على هذا، وعمومِ البَلْوَى، وأحكامِ العِبادةِ والآدابِ والإرشادِ، وتمييزِ مراتب الثُّبوتِ، قال أحمدُ وإسحاقُ: "إذا لم يَعْرِفِ الصحيحَ والسَّقِيمَ والناسِخَ والمنسوخَ مِن الحديثِ لا يُسَمَّى عالِمًا" (٤).
---------------
(١) "النُّبُوَّات" لابن تيمية (ص ٤٢)، وانظر: "الفَقِيه والمتفَقِّه" للخطيب البغدادي (٢/ ٤٤).
(٢) "جامع بيان العلم وفضله" (٢/ ١١٩٤)، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (١/ ٢٥٢).
(٣) "الاستقامة" (٢/ ٢١٧).
(٤) "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص ٦٠).

الصفحة 14